لم يكن إعلان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان استعداده لزيارة أفغانستان و«فتح صفحة جديدة» في العلاقات مع نظام طالبان مفاجئاً بالنسبة لكثير من المراقبين المتابعين لتطورات المشهد الإقليمي.
فإيران، التي لطالما اتسم موقفها من طالبان بالحذر والانتقاد، باتت في الآونة الأخيرة تمدّ يد التعاون إلى حكومة تختلف معها جوهرياً في الرؤى والتوجهات، بل وشهدت معها في الماضي مواجهات متوترة. في السابق، كانت علاقة طهران بطالبان تُبنى في الأساس على اعتبارات أمنية وواقع الجوار الجغرافي المفروض، واقتصرت على حدود التبادل التجاري البسيط، وتبادل الرسائل بين الحين والآخر، فضلاً عن انتقادات رسمية لسياسات الحركة، خاصة ما يتعلق بإقصاء الطاجيك والهزارة من معادلة الحكم. إلا أن المؤشرات الحالية تدل على أن إيران بصدد تبني مقاربة جديدة، قائمة لا على الأيديولوجيا، بل على الواقعية السياسية وحسابات المصلحة الوطنية.
لكن لماذا الآن؟ ما الذي دفع إيران إلى تغيير قواعد اللعبة؟ الإجابة تكمن في التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، وفي الضغوط المتصاعدة على النظام الإيراني داخلياً وخارجياً. في يوليو 2025، أقدمت روسيا، كأول قوة كبرى، على الاعتراف رسمياً بحكم طالبان، رغم الخلفية المتشددة للحركة وصلاتها السابقة بالتنظيمات المتطرفة. وقد منح هذا القرار طالبان دفعة معنوية وسياسية قوية، ورسّخ الحضور الروسي في آسيا الوسطى والجنوبية، وهي المنطقة التي انسحبت منها الولايات المتحدة قبل أربع سنوات. من منظور إيراني، اعتُبر التحرك الروسي بمثابة "إشارة انطلاق". ومع التقارب المتزايد بين طهران وموسكو ضمن ما يعرف بمحور مواجهة الغرب، لم يكن لإيران أن تتخلف عن شريكتها الإستراتيجية.
وعلى الجانب الآخر، تعرضت إيران في العامين الماضيين لسلسلة من الضربات القاسية على يد إسرائيل، تمثّلت في غارات جوية على مواقعها في سوريا والعراق، واغتيالات استهدفت كبار قادة الحرس الثوري، فضلًا عن تآكل نفوذ ما يُعرف بـ"محور المقاومة" من لبنان إلى اليمن.
وفي الوقت ذاته، يتسارع قطار التطبيع العربي مع إسرائيل، حيث تدرس عدة دول عربية توسيع هذه العلاقات. وتجد إيران نفسها محاصَرة من كل جانب: جيوسياسياً، واقتصادياً، وحتى على صعيد الشرعية الدولية.
هنا تبرز أفغانستان تحت حكم طالبان كعامل جديد في معادلة المصالح الإيرانية. تشكل الحدود الطويلة مع أفغانستان هاجساً أمنياً دائماً لطهران، لكنها تحوّلت في ظل العقوبات الغربية إلى منفذ اقتصادي غير رسمي. التجارة البسيطة، وتهريب الوقود، وتبادل العملات، جميعها عناصر تساعد إيران في تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية.
وعلى المستوى الإستراتيجي، تراهن طهران على تطوير ميناء "تشابهار" بالتعاون مع الهند، ليكون منافساً لميناء غوادر الباكستاني وممراً بديلاً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية. وفي حال تعاون طالبان، يمكن لإيران أن تُنشئ ممراً برياً يربط الخليج بآسيا الوسطى دون الحاجة إلى المرور عبر الأراضي الباكستانية، وهو ما يتطلب علاقات مستقرة مع كابل. في الوقت نفسه، تراقب طهران بقلق تزايد نفوذ خصومها السنّة –كالسعودية وتركيا وقطر وباكستان– في الداخل الأفغاني، من خلال الاستثمار في التعليم الديني، والإعلام، والتجارة. ولا ترغب إيران في رؤية طالبان تنزلق بالكامل إلى فلك هذه القوى المنافسة.
لكن ربما يكون التحول الأهم داخلياً. فبعد سنوات من التدخلات المكلفة في ساحات مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، بات واضحاً أن طهران تُعيد النظر في أولوياتها. "تصدير الثورة" لم يعد الهدف الأول. اليوم، الأولوية هي لبقاء النظام، وكسر الحصار الاقتصادي، واستعادة زمام المبادرة إقليمياً. ضمن هذا الإطار، يمكن لطالبان أن تتحول –رغم خلافات العقيدة والماضي الدموي– إلى شريك ظرفي لا بدّ منه. وبالطبع، العلاقة ليست من طرف واحد. فطالبان أيضاً تسعى بشكل محموم إلى نيل الاعتراف الدولي. الغرب لا يزال يرفض منحها الشرعية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وغياب التمثيل السياسي الحقيقي، وتهميش الأقليات. والدول العربية تتعامل معها بحذر. لذا ترى طالبان في كل من إيران وروسيا والصين وتركيا بديلاً ممكناً لنظام عالمي لا يُلزمها بقيم الديمقراطية الليبرالية. وفي حال تحققت زيارة الرئيس الإيراني إلى كابل، فستُعتبر انتصاراً سياسياً كبيراً لطالبان، ودليلاً على اختراق دبلوماسي مهم. غير أن طهران لن تقدم على هذه الخطوة من دون مقابل. فهي ستطالب بتغيير في سلوك طالبان تجاه الشيعة، وضمان أمن الحدود، وتقاسم عادل لمياه نهر هلمند، وتسهيل التعاون الاقتصادي والتجاري.
وفي الخلاصة، فإن انفتاح إيران على طالبان لا يُمكن قراءته بوصفه خطوة تكتيكية فقط، بل كجزء من إعادة تموضع أوسع داخل خريطة التحالفات الإقليمية. مع تراجع الدور الأميركي، وصعود عالم متعدد الأقطاب، تسعى قوى مثل إيران وروسيا والصين وتركيا إلى تشكيل توازنات جديدة قائمة على المصالح لا على الشعارات الأيديولوجية. وفي هذا السياق، ليس مستبعدًا أن تتحول الخصومات القديمة إلى شراكات واقعية إذا اقتضت المصلحة. هل ستكسب إيران هذا الرهان؟ الجواب لا يزال معلّقاً. فالثقة مفقودة بين الطرفين، والتباينات العقائدية قائمة. لكن المؤكد هو أن طهران لم تعد في موقع يسمح لها بفرض الشروط. فهي محاصَرة إقليمياً، ومثقلة بأعباء اقتصادية، ومُستنزفة استراتيجياً، وتجد نفسها مضطرة للقبول بقواعد لعبة جديدة. وفي هذه اللعبة، لم تعد طالبان مجرّد خصم، بل قد تكون فرصة –مريرة لكن ضرورية– لالتقاط الأنفاس.