إن تقديم تحليل واحد ومتفق عليه من غالبية الأطراف حول أسباب وعوامل انهيار نظام جمهورية أفغانستان الإسلامية، أمر صعب للغاية، بل يكاد يكون مستحيلاً. فكل من عاش تحت راية الجمهورية أو كان مستفيداً منها، لديه نظرته الخاصة تجاه الحدث المظلم المتمثل في سقوط الجمهورية وبسط سيطرة الهيكل المرفوض والمنبوذ المسمى طالبان.
ينظر كل فرد إلى هذه الحادثة –التي أخرجت أفغانستان مرة أخرى من مسار الحضارة وبناء الدولة– من زاوية انتمائه القومي والسياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي. ولا يمكن تقديم رواية واحدة ومهيمنة عن هذا السقوط. لذلك، فإن هدفي من هذا التحليل ليس توجيه اللوم إلى الآخرين أو إبراز أخطائهم ونقائصهم، بل عرض وجهة نظري، المتأثرة هي الأخرى بالانتماءات السياسية، وبنى السلطة، والعلاقات الإقليمية، والانتماءات القومية واللغوية والمناطقية والتاريخية.
أولاً
لحسن الحظ، أصبح الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت متاحاً للجميع، والكثير من الأمور التي سأشير إليها هنا متوفرة بسهولة.
النقطة الأولى تتعلق بدور نائب الرئيس في هيكل الجمهورية، وفقاً للدستور. لم تُعرّف صلاحيات نائب الرئيس في الدستور بشكل واضح، وكانت حدود هذه الصلاحيات يحددها الرئيس نفسه. وكانت درجة هذه الصلاحيات مرتبطة بمستوى العلاقة بين الرئيس ونائبه.
لكن توقعات الناس مني لم تكن قائمة فقط على الصلاحيات المحدودة أو غير الموجودة، بل كانت تعود إلى جذوري السياسية والقومية والتاريخية، إذ كنت أحد جنود البطل الوطني الشهيد أحمد شاه مسعود، وكان الناس ينتظرون مني أن أدافع عن رؤيته وإرثه السياسي بالكامل.
عندما أصبحت نائباً للرئيس، لم يكن معسكر "المقاومة في التسعينيات" تفتّت فحسب، بل إن كل جزء منه كان يفتقر إلى البنية الفعلية. وفي السلطة، كان نفوذ هذا المعسكر –على الأقل– موزعاً بيني وبين الدكتور عبد الله عبد الله. ولا أريد الدخول في مسألة مدى تمثيل كل منا لهذه المصالح أو حمايتها، لأن ذلك سيحرف الهدف الرئيسي من هذا المقال.
لذلك، فإن الذين يظنون أن القوات المسلحة كان يمكن أن تعمل وفق أوامري أو كان ينبغي أن تعمل بناءً على طلبي، لا يعرفون روح الدستور ونصه. من الناحية القانونية، لم يكن بإمكاني إصدار أوامر مباشرة لأي جزء من القوات المسلحة، باستثناء دائرة الحماية الشخصية والمقربين مني. وكان على نائب الرئيس أن ينفذ آراءه وطلباته من خلال الهياكل المؤسسية آنذاك، مثل اجتماعات مجلس الأمن برئاسة الرئيس، والاجتماعات الأمنية الخاصة، وجلسات مجلس الوزراء.
ونظراً لخلفيتي في مجال الأمن، وخاصة الاستخبارات، كان الرئيس تحت ضغط أميركي لعدم منحي صلاحيات محددة وواسعة في هذا المجال. وقد تم التصريح بذلك صراحة في أول مقابلة مفصلة له بعد السقوط.
بعد أن بدأ -المبعوث الأميركي- زلمي خليل زاد في عام 2018 مفاوضات مباشرة مع طالبان متجاوزاً الحكومة الأفغانية، اتخذت موقفاً حاداً وقوياً من خلال تنظيم تجمعات شعبية. كنت أول من أدان في تجمع شعبي في كابيسا مفاوضات خليل زاد، وقلت إن عاقبة هذا العمل ستكون خطيرة للغاية على بقاء النظام وإنجازات المقاومة والجمهورية.
هذا الموقف –رغم أنه كان قبل انضمامي إلى الرئيس أشرف غني– جعل السفارة الأميركية تفرض عليّ عزلة خلال أكثر من عامين كنائب للرئيس، وكانت علاقاتنا باردة للغاية. ورغم بعض المحاولات من الجانبين للتفاهم، فإن الفجوة في المواقف كانت كبيرة.
كان القائم بأعمال السفارة الأميركية في كابل، ويدعى "ريتشارد"، عقد معي اجتماعاً خاصاً لعدة ساعات بعد أيام قليلة من أدائي اليمين، في مكتبي المؤقت في "كوته باغتشه"، لأن مكتب "صدارت" لم يتم إخلاؤه بعد من المارشال دوستم. حاول ريتشارد أن يقنعني بألا أتحدث ضد السياسة التصالحية للأميركيين إذا أردت مستقبلاً لنفسي. لم نصل إلى نتيجة، بل ازداد يقينه بأنني ضد أي تسوية غير مجدية ومهينة مع طالبان.
وفي مرة أخرى، اشتبكت معه لفظياً بشدة في فناء "حرمسرا -القصر الرئاسي-" بعد أحد الاجتماعات، فغادر المكان بعد سماع كلامي القاسي. وكانت السفارة الأميركية تكرر طلبها بألا تكون بيانات اجتماعات الساعة "ست ونصف" ضد طالبان، وألا نثبت أنهم يقفون وراء الاغتيالات والتفجيرات في المدن، لأن خليل زاد اخترع مصطلح "خفض العنف".
على سبيل المثال، بعد سقوط الجمهورية، نشرت طالبان قائمة تضم أسماء الانتحاريين الذين شاركوا في الهجمات ضدي، رغم أنهم كانوا ينكرون ذلك في السابق. وكان تفجير "جهارراهی زنبق" من هذا النوع من الجرائم. وكانت أميركا تحاول تبرير اتفاق الدوحة، وكشف جرائم طالبان كان يضر بسردية واشنطن.
كان بإمكاني أن أفعل أشياء أكبر لأن لدي الخبرة والقدرة، لكن لم يكن بإمكاني أن آمر القوات مباشرة. وعندما أنظر الآن إلى حدود صلاحياتي آنذاك، لا ألوم أحداً غير نفسي. فإذا كانت صلاحياتي محدودة، كان عليّ أن أعترض في حينه. وربما كنت الشخص الوحيد في تاريخ أفغانستان الذي كان يؤدي صلاة الفجر دائماً في مكتبه. كنت أحاول منع وقوع أفغانستان في الكارثة التي غرقت فيها.
ثانياً
طريقة التفاوض مع طالبان. ما كان يُسمّى "الطبقة السياسية" في أفغانستان كان منقسماً بشدة، ولم يكن هناك أي تيار سياسي يدعم بصدق وبقلب واحد الموقف التفاوضي للحكومة. وكلما كان زلمي خليل زاد يدخل كابل، كان يلتقي أولاً بأشخاص متفرقين قبل لقائه بالرئيس، وكان يُظهر هذه اللقاءات في الإعلام ليقول للرئيس: "أنت لست المرجع الوحيد لصناعة السلام تحت راية الجمهورية".
أما الذين كانوا يلتقون خليل زاد قبل الرئيس فكانوا يشعرون بأهمية ذاتية، ويعتبرون السخرية من القصر الرئاسي نوعاً من القوة والشرف. كانت هذه الحيلة الشيطانية من خليل زاد لخلق الشقاق والانقسام واضحة تماماً. وكما أن دور الشيطان في إضلال البشر لم يكن يوماً ضعيفاً، فإن عزل الجمهورية كان ركناً أساسياً في الاستراتيجية الأميركية الجديدة.
وكما شرحت في تصريحاتي –وهي متاحة على الإنترنت– كنت أعلم أن هذا النهج لن يصل إلى نتيجة، لكن موقفي هذا لم يكن عاماً داخل الجمهورية. أحياناً كان يُنظر إلي كأنني "بوّاب جهنم"، لا أملك سوى الغضب، ولا أجلب سوى النار والعقاب. لكن الحقيقة أنني، بحكم تاريخ عملي وخبرتي، كنت أعلم أن طالبان لم تتغير، بل ازدادت سوءاً.
عندما جاءت فرصة السفر إلى الولايات المتحدة –وكان آخر سفر لقيادة الجمهورية إلى هناك– حاولت إقناع الرئيس ألا يصحبني، لأن اسمي لم يكن مدرجاً في القائمة ولم أكن مدعواً رسمياً. لكن الدكتور فضل محمود فضلي، رئيس إدارة الشؤون الرئاسية، أرسل لي رسالة من الرئيس يطلب فيها أن أتجاوز البروتوكولات والرسميات من أجل الوطن وأرافق محمد أشرف غني كأخ. فوافقت.
بعد وصولنا إلى واشنطن، أقامت السفارة الأفغانية مأدبة حضرها أكثر من مئة من كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، وعدد من المسؤولين الحاليين، إلى جانب جنرالات وسفراء ورؤساء وصحفيين بارزين واللوبيات. تحدث الرئيس بحذر شديد، مبرراً ذلك بأن لدينا في الغد لقاءً مع جو بايدن، وأن أي حديث قاسٍ هنا سيضعه في موقف صعب ويجعل المفاوضات بلا جدوى.
بعد حديث الرئيس، وقف الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وقال إن الولايات المتحدة على وشك ارتكاب جريمة في أفغانستان، وإن هذا لا يُغتفر، مشيراً إلى الانسحاب الحتمي للقوات الأميركية والاتفاق السري مع طالبان. وكان هذا أشد تصريح في الجلسة، وتحدث آخرون في السياق نفسه. فقال لي الرئيس: "دع بايدن يسمع هذا منهم، ونحتفظ نحن بكلامنا للغد".
كان "توم ويست" –الذي أصبح لاحقاً المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأميركية إلى أفغانستان– حاضراً في الجلسة. وفي اليوم التالي، قبيل لقاء بايدن، لم تُنشر في الصحف الأميركية أي أخبار سلبية عن إدارته، فحُفظت سمعته في ذلك اليوم.
في البيت الأبيض، ووفق البروتوكول، انتظرت ساعة تقريباً في قاعة الاستقبال لأن اسمي لم يكن مدرجاً رسمياً. ثم أُدخلت إلى قاعة الاجتماع، ويبدو أن المباحثات الأساسية كانت قد انتهت. نهض بايدن من مكانه وقال: "العمل كنائب أمر صعب، فهو لا يجلب الشكر، وكل الفضل يذهب للرئيس. لقد كنت نائباً وأعرف ما تشعر به".
طلب مني بايدن أن أطرح ما لديّ، فقلت بسرعة لضيق الوقت:
"أولاً، إذا كان الهدف من اتفاق الدوحة هو السلام، فلماذا ستتوقف منظومتكم اللوجستية والدعم العسكري لقوات الجمهورية في الأول من سبتمبر 2021، دون أي مجال للتمديد؟ هذه العقود كان يجب تمديدها منذ أشهر.
ثانياً، إذا خرقت طالبان روح اتفاق الدوحة وهاجمت، فما هي خطتكم الطارئة؟ أم أنكم تخليتم عن الجمهورية وأن الاتفاق هو في الواقع تغيير للنظام؟
ثالثاً، هل أنتم مستعدون ذهنياً لسقوط الجمهورية؟"
كانت الأسئلة قاسية، لكن بايدن أجاب بهدوء بأنها أسئلة منطقية، مضيفاً: "سنواصل دعم الجمهورية، لكن التفاصيل الفنية سيشرحها لكم وزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية".
ثم اجتمعنا بوزير الدفاع لويد أوستن لمدة ساعة ونصف في البنتاغون، وبعده بثلاث ساعات تقريباً مع مدير الـ"CIA" في مقر الوكالة. وتبيّن لاحقاً أن الاثنين كانا مأمورين بخداعنا، إذ لم يتحقق أي وعد أعطي لنا، بل كانوا يصرون حتى اللحظة الأخيرة على أنها ستتحقق. الهدف من هذا الخداع كان منعنا من اتخاذ إجراءات دفاعية مستقلة عن أميركا، حتى لا يُفشل مخطط إدخال طالبان، وتجريد قوات الجمهورية من القدرة والثقة بالنفس.
ثالثاً: الإجراءات التكتيكية المطلوبة
كنت من المؤيدين لشراء الألغام المضادة للأفراد والآليات وزرعها بكثافة في طرق طالبان، لأن أفضلية طالبان في كثير من العمليات كانت بفضل الألغام، فيما كان غيابها نقطة ضعف لدينا بسبب توقيع أفغانستان على معاهدة حظر الألغام.
كما كنت مؤيداً لشراء الطائرات المسيرة، وكان وزير الخارجية حنيف أتمر يسعى لإقناع الجميع بذلك، ورتب لي لقاءً مع شركة تركية لصناعة المسيرات. لكنني –كنائب للرئيس– لم أكن أستطيع اتخاذ قرار مباشر.
كنت مؤيداً لتوزيع السلاح على الناس للمقاومة من بيت إلى بيت، وشارع إلى شارع، لكنني كنت وحيداً في هذا الرأي، إذ كان الآخرون يعتبرون هذه الإجراءات مخالفة "للاتفاقات الكبرى" للوصول إلى السلام. وكان الرئيس أشرف غني يستجيب لمعظم مقترحات الشخصيات المؤثرة، ويوافق كتابياً على مقترحاتي أيضاً.
في الأسابيع الأخيرة، كان المال يوزع بأمره من جهاز الأمن الوطني. وكل الشخصيات التي تدّعي الآن أنها كانت مستعدة للمقاومة لكن غني لم يدعمها تكذب، لأن الرئيس لم يرفض أي طلب منهم في تلك الفترة. ومع ذلك، كان بعضهم يتشاور ليلاً مع خليل زاد الذي كان يكرر لهم أن طالبان تغيرت وستتصالح معهم، فلا داعي لإتعاب أنفسكم.
بعد أن يئست من شراء الألغام من الخارج بسبب المعارضة الأميركية وحلف الناتو الشديدة، لجأت إلى وسائل غير تقليدية، وحاولت إنشاء ورش لصناعة الألغام.
وتجدر الإشارة إلى أن أمين عام الناتو يانس ستولتنبرغ قال للرئيس أشرف غني في اتصال إنجاح عملية السلام يتطلب عدم إعدام مقاتلي طالبان وعدم شراء الألغام. هذا الاتصال ما زال موجوداً على "تويتر".
كان الرئيس يحدد العلاقة مع الغرب كأساس، لكنني كنت أعلم منذ وقت طويل أن الغرب يخوننا. قبل سقوط النظام بعشرة أيام فقط، قال لي الرئيس: "إذا استطعت، فعّل مشروع صناعة الألغام الذي اقترحته". ورغم أن هذا ليس من مهام نائب الرئيس، بدأت فوراً بدعوة أشخاص أعرفهم لبدء العمل، لكن التطورات تسارعت قبل أن نتمكن من الإنتاج.
كان هدفي تكثيف الإجراءات التكتيكية لإبطاء الانهيار الاستراتيجي، ولهذا دعمت –بصعوبة– حزام الدفاع عن مديريات كابل لمنع الفوضى قبل دخول طالبان. لكن أكرر أن هذه الأنشطة لم تكن من مسؤولياتي أو صلاحياتي المحددة.
رابعاً: دور الدعاية وتشويه صورة الحكومة
كانت بعض وسائل الإعلام المدعومة من الغرب، خاصة من السفارة الأميركية، مكلفة بإظهار الحكومة –ظلماً– على أنها عقبة أمام السلام. وتم تنفيذ هذه الخطة وفق سيناريو مفروض.
يعرف الناس مثلاً كيف أن قناة "طلوع"، وهي أكبر وسيلة إعلامية بنت شهرتها وثروتها بفضل الجمهورية، تصرفت بشكل رجعي واستسلمت علناً. وصوّرت الرئيس على أنه شخص متعطش للسلطة، في حين كان يقول في كل اجتماع إن هدفه هو منع الانقطاع والانهيار، لا البقاء في الحكم.
لكن ترديد هذه الجمل ومنطق الرئيس لم يكن في مصلحة تلك الوسائل الإعلامية الممولة، ولم يكن مسموحاً لها نشره. كانت مهمتها رسم صورة إيجابية خيالية ومزيفة عن طالبان. ولم يكن لدى الزعماء السياسيين أي مصلحة في إبراز التصريحات الإيجابية للحكومة، بل بذلوا كل ما في وسعهم لإقصائها، وكان الاعتقاد السائد أن طالبان تستهدف نقطة واحدة فقط: القصر الرئاسي.
خامساً: الجيران المشبوهون والانتقاميّون
كُتب الكثير عن دور باكستان. فما هو مسيطر الآن باسم طالبان، كان في الحقيقة تنظيماً في المنفى استضافته ودعمته باكستان طوال عشرين عاماً. وقد نوقش دورها التخريبي في انهيار أفغانستان بما يكفي.
على سبيل المثال، قاري فصيح الدين فطرت، المسمّى "رئيس الأركان" لدى طالبان، كان بعد إصابته يتلقى العلاج لمدة عام كامل في مستشفى بحيّ حيات آباد في بيشاور، تحت حماية جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية (ISI) أما النقاشات التفصيلية حول كيفية إدارة باكستان للحرب ضد قوات الجمهورية، فهي تحتاج وقتاً أطول من مساحة هذا المقال.
إن طالبان، التي يحمل قادتها ألقاب "ملا" و"مولوي"، لم تكن سوى قوة مدفوعة كان توجيهها الفعلي بيد العسكريين الباكستانيين. ومن أخطائنا الكبرى أننا عندما اكتشفنا نوايا الغرب، كان علينا أن نسارع لبناء علاقات دفاعية واسعة مع الجيران، لتعويض خيانة الناتو عبر إيجاد عمق استراتيجي بديل في المنطقة.
قال الرئيس غني في مقابلة إنه يدفع ثمن ثقته بالغرب والاتفاقات الموقعة التي لم تُحترم. ومن الناحية النظرية، يُعتقد أن هجمات 11 سبتمبر 2001 أحدثت قطيعة في العلاقة الاستراتيجية بين أميركا والتطرف الديني، لكن بعد مقتل أسامة بن لادن، لم ترغب واشنطن في هزيمة طالبان، بل حاولت استثمارها ضمن مصالحها الأمنية الكبرى، وهذا ما حدث بالفعل.
سادساً
يوم الخميس 12 أغسطس 2021، عاد الدكتور عبد الله عبد الله من قطر، ودُعي إلى اجتماع أمني طارئ في القصر الرئاسي. وبعد الاستماع إلى تقارير من شخصيات مختلفة، عرضتُ خطة "المقاومة الوطنية". التزم الرئيس الصمت، فتوجهت عمداً إلى الدكتور عبد الله وقلت: "دكتور، أنت عائد للتو. هل هناك ما يقال، أم نستعد للحرب؟".
فأجاب فقط: "إذا افترضنا أن المقاومة ستنشأ، فمن سيتولى هذه التدابير وبأي هيكل؟ لقد تغيرت الظروف".
وبعد انتهاء الاجتماع، سألته عند باب منزله الخاص –بناء على معلوماتي– عن أن طالبان تستعد لهجوم واسع بإيعاز من الأميركيين. فأجاب بحذر: "في لقائنا الأخير مع طالبان لم نسمع ما يسمح بالحكم على أن الأمر حرب أو سلام، كان اجتماعنا بلا مضمون".
قبل ذلك، كنت قد حاولت مراراً إنشاء لجنة مشتركة لمراقبة الخروقات المزعومة لـ"خفض العنف"، وكان جنرال جلال يفتلي –وهو أيضاً "ملك"– ممثلنا المقترح، لكن الخطة لم تُقبل. وكان خليل زاد يردد أن معظم الخروقات في عملية "خفض العنف" تأتي من الحكومة. هذا المصطلح السخيف لم يُعرّف أبداً. واقترحت تشكيل لجنة تحقق لفضح هذا الادعاء الكاذب، لكن ذلك لم يحدث.
النتيجة
سياسياً، بذلت جهدي لتعزيز الوحدة الوطنية، وربما كنت من قلة في مناطق الشمال حاولت أن لا تتسبب أقوالي وأفعالي في إحداث جروح عرقية. لكن الحقيقة أن طالبان ليست سوى حركة قبلية متعصبة بشكل غير مسبوق،، وغالباً بلا إيمان بالتنوع القومي والثقافي في أفغانستان. لأن الدين والمذهب بالنسبة لهم مجرد غطاء لعطشهم المستعر للحفاظ على السلطة، وحين تهدد مصالحهم الفئوية، يضحون بالقرآن في سبيل السلطة.
وأبرز مثال هو تجاهلهم للفضائح الأخلاقية والجنسية لكبار قادتهم، التي انتشرت على الإنترنت حتى صارت أفضح من قضية جيفري إبستين في أميركا. وما أُقيم بعد سقوط الجمهورية هو "طالبستان"، ولم يبق من أفغانستان –في الرموز والقيم– شيء؛ لا دستور، ولا رموز وطنية، ولا مشاركة شعبية في الحكم.
لهذه الأسباب، فإن هيكل طالبان سينهار، ولا شك في ذلك. لا أستطيع تحديد شكل هذا الانهيار، لكن وقوعه حتمي.
أنا اليوم على رأس منظمة "حركة أفغانستان الخضراء(رسا)"، التي لعبت دوراً –بقدر استطاعتها– منذ 2011 في محاربة طالبان، ولا تزال. بعد سقوط الجمهورية، استشهد العشرات من أعضائها خلال السنوات الأربع الماضية، واعتُقل الكثيرون في سجون طالبان. ونعرف جيداً أسلوب محققي طالبان في تعذيب رفاقنا نفسياً. حتى عندما نرى ورقة حكم من محاكم طالبان، نعرف أن أساس أحكامهم ليس الشريعة ولا القانون المدني ولا العرف، بل التعصب المطلق والحقد والكبرياء.
ومع كل هذه الصعوبات والتضحيات، فإن شرفنا وكرامتنا أننا لم ولن نعترف بالوضع الذي تلا السقوط. لم ولن نعترف بطالبان، وهذا أحد مفاخرنا التاريخية. فالعيش بحرية له ثمن.
يوم الأحد 15 أغسطس، في الساعة 11:40، وصلت إلى قريتي في باغ سرخ بولاية بنجشير، وبدأت فوراً في تعبئة الناس. وبما توفر لدي من بعض المال والقليل من السلاح، استطعت أن أشارك في تشكيل المقاومة ضد طالبان. فالمعركة، إلى جانب بعدها المعنوي والسياسي، تحتاج إلى المال والسلاح والناس. وقد توفرت لنا هذه العناصر الثلاثة جزئياً، وما زالت لدينا الإمكانيات التي تمنع طالبان من ادعاء الاستقرار.
طالبان لا يمكنها أن تجلب الاستقرار لأفغانستان. فالاستقرار ليس مجرد السفر الآمن من كابول إلى قندهار، فهذا مجرد جزء صغير من هدوء هش وزائف. قوة طالبان في أنها سلحت نحو 3٪ من سكان الجنوب والجنوب الغربي وبعض المديريات الخاصة في الشمال، وتدفع لهم رواتب لحماية سلطتها الاحتكارية. هذه القدرة ليست متاحة حالياً للقوى السياسية والقومية الأخرى في أفغانستان.
لكن التاريخ أثبت أن الاستقرار لا يتحقق ما لم تُلتئم الجراح والانقسامات الداخلية. فالاستقرار هو قاعدة الأمل، والأمل يجلب التنمية والتطور. أما الهدوء القائم على الخوف والقمع فلن يشجع الاستثمار أو يعزز شعور جميع المواطنين بالملكية، ولن يخلق دولة-أمة.
الوضع سيتغير حتماً، لأن مسألة الحصول على السلاح –وهي قضية تكتيكية أكثر من كونها استراتيجية– ستُحل يوماً ما. وعندما تُحل، سيتحدث الناس مع طالبان بلغة أفغانستان التاريخية، أي لغة العنف والقوة. فاللغتان الفارسية والبشتوية معلقتان الآن، واللغة الأكثر نفوذاً في البلاد هي فوهة البندقية.
ولكي نضمن أن شعور المواطنة المشتركة بين كل القوميات يتعرض لأقل ضرر ممكن في اليوم التالي لانهيار طالبان، فإننا نبذل أقصى جهدنا لتكون حركتنا قائمة على فكر بناء أفغانستان وإعادتها، لا استبدال تكبر قومي بآخر. فنحن نقاتل من أجل إسقاط "طالبستان" واستعادة أفغانستان.