كانت أفغانستان خلال الثلاثة عقود الماضية مليئة بالأزمات والتقلبات، لذلك الحاجة لإجراء تحليل تاريخي عميق ضروري، بدءاً من الحقبة السوداء في التسعينيات، مروراً بقيام الجمهورية وانهيارها، وصولاً إلى الاستبداد "الطالباني" الحالي.
الحقبة السوداء في التسعينيات وبداية الجمهورية
قبل الخوض في نقاش حول العقدين اللذين عاشتهما الجمهورية، وأسباب سقوطها، والواقع الحالي، وآفاق المستقبل، من الضروري التوقف قليلًا عند المرحلة التي سبقت قيامها.
لقد كانت هذه الحقبة، التي صادفت اقتراب أفغانستان من إكمال قرن من الزمن على التجربة الإدارية الحديثة، من أحلك وأخجل الفترات في تاريخ البلاد وأكثرها تخلفاً. فمن عام 1992 إلى عام 2001، وهي فترة قاربت العشر سنوات، نصفها تحت حكم الأحزاب الجهادية ونصفها الآخر تحت سيطرة طالبان الاستبدادية المتطرفة، عاشت البلاد في فوضى تامة، وانعدام للحكم، وحروب أهلية، وتدمير كامل للجيش والشرطة والقوات الجوية، وإزالة للمعالم الثقافية والتاريخية، وانهيار لقطاع التعليم والفنون. كان الأفغان محرومين من كل مقومات الدولة الأساسية.
وإذا أخذنا وضع كابل كمثال قبل أحداث سبتمبر 2001، نجد أن هذه المدينة، التي كانت رمزاً للمقاومة والانتصار في الحرب الأفغانية البريطانية الأولى، لم يتجاوز عدد سكانها ما بين 500 إلى 700 ألف نسمة. فغالبية سكانها نزحوا إلى بلدان أخرى بسبب الصراعات الداخلية بين حزب الجمعية الإسلامية، بقيادة برهان الدين رباني، مجلس الشورى الشمالي، بزعامة أحمد شاه مسعود، والحزب الإسلامي، الذي يقوده قلب الدين حكمتيار، إضافة إلى الكتلة الإسلامية الوطنية، التي يتزعمها عبد الرشيد دوستم، وحزب الوحدة الإسلامية، الذي يتزعمه عبد العلي مزاري. أما الباقون فكانوا من الذين لم يمتلكوا القدرة على مغادرة البلاد.
الوضع الاقتصادي في المدينة كان متدهوراً للغاية، حيث كانت معظم العائلات ترزح تحت وطأة الفقر المدقع وسوء التغذية. ومن الناحية النفسية، كان الناس تحت حكم طالبان يتعرضون لتعذيب جسدي ونفسي مستمر، حيث كان المئات يتعرضون في الأسواق والمساجد والشوارع للإهانة والضرب وأحيانًا للاعتقال بشكل يومي. أما وسائل الترفيه والثقافة التقليدية، مثل الموسيقى المحلية والأغاني ومعظم الألعاب، فقد أُزيلت تماماً.
على الصعيد السياسي، فقدت أفغانستان هويتها في الإقليم والعالم. كان الهاتف الوحيد في قصر "غلكاني" الرئاسي يحمل رمز الاتصال الباكستاني (0092)، في حين اختفى الرمز الأفغاني (0093) تماماً. وكان ذلك دليلاً على أن الإدارة السياسية العليا في البلاد كانت خاضعة للتأثير، وربما الرقابة الاستخباراتية، للجارة باكستان.
وبشكل عام، من عام 1992 حتى 2001، كان الأفغان محرومون من كل مقومات الدولة المنظمة. لقد أُنهك الشعب جسدياً ونفسياً إلى حد أن الأمل في الحياة قد انعدم. كان سكان كابل والولايات هياكل بشرية خاوية بلا روح. حتى النخب الوطنية والمثقفون الأفغان في الخارج، سواء في أطر سياسية أو ثقافية، لم يجدوا أي سبيل عملي للتغيير، واضطر كثيرون منهم إلى التعايش مع فوضى المجاهدين وطالبان.
كانت هناك جهود فردية محدودة خارج البلاد لإحياء هوية أفغانستان وكرامتها عبر وسائل الإعلام، لكنها لم تكن كافية أو فعالة. وبعد أحداث سبتمبر 2001 وسقوط نظام طالبان، سنحت للأفغان فرصة لالتقاط أنفاسهم، واحتفل الناس في المدن والقرى بانتهاء حقبة الفصائل الجهادية والاستبداد الطالباني بطريقتهم الخاصة.
سقوط نظام طالبان وبداية فصل سياسي جديد
في عام 2001، حصلت الولايات المتحدة على إجماع دولي شبه كامل للإطاحة بنظام طالبان. حتى الخصوم التقليديون لواشنطن مثل روسيا والصين وإيران وقفوا إلى جانب هذه الجهود. وأيّد مجلس الأمن الدولي بقراره رقم 1378 (13 نوفمبر 2001) إنشاء حكومة انتقالية، ومنع إعادة تأسيس "الإمارة"، ودعم دور الأمم المتحدة في صياغة هيكل سياسي جديد.
وتبع ذلك القرار رقم 1383 (6 ديسمبر 2001) الذي اعترف رسمياً بـ"اتفاق بون" وأكد تنسيق المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار.
أما القرار رقم 1386 الصادر في 20 ديسمبر من العام نفسه، فقد مهد الطريق لتشكيل "القوة الدولية للمساعدة الأمنية" (ISAF) لتتولى مهام الأمن في كابل وضواحيها دعماً للإدارة الانتقالية الأفغانية.
أثر الإجماع الدولي
بعد عقد كامل من انعدام الدولة، والفوضى، وفقدان الهوية، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، جذب أفغانستان فجأة اهتماماً عالمياً غير مسبوق. فقد هيأت قرارات الأمم المتحدة الحاسمة، والتوافق بين الشرق والغرب، الأجواء لاقتناع معظم المثقفين والوطنيين والموظفين الحكوميين السابقين، والتكنوقراط، والصحفيين بأن أفغانستان لن تُترك وحيدة بعد الآن، وأنها ستتجه تدريجياً نحو الاستقرار السياسي. ولهذا انخرطت الغالبية الساحقة من الأفغان في البنية الرسمية وغير الرسمية للدولة الجمهورية الجديدة.
لكن الحلفاء الأساسيين للائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة كانوا في الواقع قادة الفصائل الجهادية وأمراء الحرب، الذين تم تثبيت مواقعهم في مفاصل الدولة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ولإضفاء مظهر مدني على النظام، تم إشراك عدد من التكنوقراط والمثقفين وأعضاء الأحزاب غير الجهادية في الإدارة.
بداية الجمهورية
في السنوات الأولى، شكّل انطلاق حقبة الجمهورية نهاية واضحة لسنوات التسعينيات السوداء. اعتبر الكثير من الأفغان انعقاد "اللويا جيرغا" للدستور عام 2004 خطوة سياسية مهمة وأملاً كبيراً للمستقبل. وتبع ذلك تقدم في مجال التشريع وسن القوانين.
على الصعيد الدولي، استعادت أفغانستان هويتها، وتم إقرار الدستور، وأعيد اعتماد العلم والنشيد الوطني، واستعاد ممثلو البلاد مواقعهم في المنظمات الدولية. ومع إعادة تفعيل رمز الاتصال الدولي، تحقق تقدم سريع في قطاع الاتصالات، وانطلقت الرحلات الجوية الدولية، وانخفضت معدلات وفيات الأمهات والأطفال، وارتفعت نسب التلقيح، وشهد قطاع التعليم تطورًا ملحوظًا.
كما أُعيد تأسيس الجيش الوطني والشرطة الوطنية والقوات الجوية– وهي المؤسسات الثلاث التي دمّرها المجاهدون عام 1992. وكانت هذه كلها مؤشرات لبداية جيدة، لكنها كانت قصيرة الأمد.
لكن، لماذا لم تستمر هذه الإنجازات؟ لماذا ثبت أنها هشة؟ ولماذا لم تترسخ مع مرور السنوات؟ أهم الأسباب كان التعمد في منع قيام عملية سياسية شعبية حقيقية. وسبب آخر رئيسي هو غياب الالتزام منذ اليوم الأول بتحقيق سلام واستقرار فعليين.
عرقلة العملية السياسية الشعبية – العوامل الداخلية
منذ البداية وُضع أساس النظام الجديد على نحوٍ معوج. فتركيبة الحكومة المؤقتة، التي تشكلت تحت رئاسة حامد كرزي، كانت منذ اليوم الأول ذات خلفية جهادية–عسكرية. شارك فيها جميع مرتكبي أحداث السنوات السوداء من عقد التسعينيات والمتهمين بارتكاب جرائم حرب. وقد صُمِّم النظام السياسي الجديد بحيث كان واضحاً منذ البداية أن السلطة لن تُنقل أبداً إلى الشعب.
هيكل الدولة على الورق كان قائماً على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، لكن في الواقع العملي كانت السلطة بيد نفس الأشخاص المسؤولين عن جرائم ودمار العقد السابق. هؤلاء لم يكونوا ملتزمين بالقانون أو بالقيم، بل كانوا يتسابقون في انتهاك القانون.
في عام 2018، وأثناء حديثي مع الدكتور عبد الله حول قضية داخلية في الحكومة، قال لي صراحة: "دكتور فضلي.. كلامك صحيح من حيث الدستور والقوانين، وحديثك في إطار القانون صحيح، لكن هذه هي أفغانستان".
كان عدد من التكنوقراط لهم دور تجميلي فقط لإظهار الجمهورية بمظهر لائق. وكان بعض الوطنيين بسذاجة يعتقدون أنه مع مرور الوقت سيتم ترسيخ سيادة القانون، لكن هذا الاعتقاد كان خطأً كبيراً. وهناك مجموعة أخرى من التكنوقراط والليبراليين دافعت بوعي عن هذا الترتيب لأنه كان يتماشى مع شكل الهيمنة الأمريكية. بالنسبة لهم، كانت مراعاة القيم أمراً ثانوياً، وكانوا يصفون أنفسهم بـ"الواقعيين" و"البراغماتيين" لتبرير موقفهم.
كما أُحضر الملك السابق ظاهر شاه إلى كابل لخلق مظهر جمالي وأمل زائف، ولإعطاء رسالة للشعب مفادها أن أفغانستان تعود إلى ديمقراطية الستينيات.
في مثل هذا النظام البيئي، توفرت بيئة لنمو القوة الشخصية. فكل شخص، سواء داخل الحكومة أو خارجها، كان يسعى لتعزيز قوته الاقتصادية أو السياسية أو حتى العسكرية، عبر الوسائل المشروعة أو غير المشروعة. أصبح النظام بأكمله على كل المستويات فردياً، حتى قضية السيادة الوطنية بقيت فردية، ولم ينتقل امتلاك الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية إلى الدولة، لأن الدولة كانت عبارة عن مجموعة من الأفراد لكل منهم أجنداته الخاصة.
كان هناك عائق آخر مهم أمام العملية السياسية الشعبية وهي القيود القانونية والبيروقراطية. فمع أن أكبر إنجاز في عهد الجمهورية كان التشريع، إلا أن قانون الأحزاب بقي ناقصاً ومليئاً بالمشكلات حتى نهاية العشرين عاماً. كانت كثير من مواده تتعارض مع المبادئ الأساسية للديمقراطية وتشكل عقبة أمام نمو الأحزاب الجديدة. وقد نشأت هذه المشكلة تحت تأثير التنظيمات الجهادية المسلحة، كما لعب بعض التكنوقراط والأجانب والمؤسسات دوراً سلبياً فيها.
كان الوضع مشابهاً لما حدث في ظل دستور 1964، الذي أعلن قانونياً حرية تشكيل الأحزاب، لكن حتى نهاية النظام الملكي لم يُصادق على قانون الأحزاب. وتكرر السيناريو نفسه في ظل دستور 2004: حيث نص الدستور على حرية تشكيل الأحزاب، لكن طوال عشرين عاماW لم يُستكمل قانون الأحزاب.
وبحسب الدستور، كان يجب إجراء الانتخابات، لكن قانون الانتخابات لم يُصَغ حتى النهاية، لأن ذلك كان سيهدد مصالح التنظيمات الجهادية، وبعض التكنوقراط الأفراد، والليبراليين، والعاملين في المنظمات غير الحكومية، وحتى الولايات المتحدة وحلفائها. ورغم أن محاولات لحل هذه المشكلات الجوهرية بُذلت في عهد الرئيس حامد كرزي والرئيس أشرف غني، إلا أن جميع هذه المحاولات كانت فردية، وفي نظام بيئي معادٍ للجمهورية الشعبية، من الطبيعي أن تفشل.
كما أن عوامل أخرى كثيرة، وبشكل تدريجي، خلقت فراغاً في الشرعية والسيادة والملكية الوطنية في كل زاوية من البلاد: مقاومة أمراء الحرب للعدالة الانتقالية، إضعاف النيابة العامة والمحاكم من خلال الهياكل الموازية، تقوية أمراء الحرب المحليين يوماً بعد يوم، انتشار الفساد الإداري، والمحسوبية، والواسطة، وانعدام العدالة في تنفيذ المشاريع التنموية في الولايات… كل هذه كانت أسباباً فرعية وتنفيذية موجودة بدرجة ما في أي حكومة. أما السبب الداخلي الرئيسي فكان عرقلة العملية السياسية الشعبية، وعدم تولي المسؤولية السياسية، وفي النهاية الهزيمة السياسية.
العوامل الخارجية
على الرغم من أنني أعتقد أن الأجانب يتدخلون دائمًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأن التركيز الأساسي ينبغي أن ينصبّ على ضعفنا الداخلي، فإن العوامل الخارجية بعد عام 2001 كانت مختلفة بوضوح عن التدخلات المماثلة في بلدان أخرى حول العالم.
واجه الأجانب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أفغانستان مدمرة وغير مستقرة ومنهكة جرّاء عقد التسعينات الأسود. جاء تدخلهم على أساس قرارات الأمم المتحدة، لكن نفوذهم العملي كان أكبر بعدة مرات من مستوى السيادة الوطنية. كانت نفقاتهم السنوية تفوق الميزانية الوطنية الأفغانية بنحو مئة ضعف، وكان عدد موظفيهم المدنيين يعادل ثلاثة أضعاف الكادر المدني الأفغاني، وامتلكوا قوة برية وجوية واستخباراتية لا يمكن مقارنتها على الإطلاق بقوة الدولة والمجتمع الأفغانيين.
منذ اليوم الأول، طُبّقت سياسة تمكين القوى المحلية، وأمراء الحرب، والمهربين، ومغتصبي الأراضي، وقادة الجهاد، تحت قيادة الولايات المتحدة. وقد دافع وزير الدفاع الأميركي في إدارة بوش، دونالد رامسفيلد، علناً عن هذه السياسة، حيث نصّت عقيدته على ضرورة تمكين أمراء الحرب المحليين من أجل "استقرار" أفغانستان.
كان لهذه السياسة أثران متوازيان:
تقوية أمراء الحرب، مما أدى إلى إضعاف الحكومة المركزية.
ترسيخ نظام المنظمات غير الحكومية، الذي من خلاله أُنشئت مئات المؤسسات غير الحكومية، وكان هذا النظام لا يدعم أمراء الحرب سراً فحسب، بل شكّل هيكلاً بديلاً ومنافساً للسلطة المركزية.
لم يُقر قانون المنظمات غير الحكومية بسبب الضغط الخارجي حتى سقوط النظام، حتى لا يكون للدولة تأثير عليه. ومن خلال هذا النظام، منع الأجانب تنفيذ المشاريع الوطنية والبنيوية الكبرى، وفضّلوا تمويل المشاريع المؤقتة وذات الأثر المحدود.
إحدى الأمثلة الواضحة كانت في المجال الانتخابي، حيث أنفقت الأمم المتحدة خلال عشرين عاماً ما يقارب مليار دولار، لكنها لم تُنشئ نظاماً انتخابياً يضمن التحقق الدقيق من هوية الناخبين أو فرز الأصوات بشفافية.
وفي عام 2018، عندما طرحَت الحكومة الأفغانية حلّ هذه المشكلة عبر توزيع البطاقات الإلكترونية وأخذ البيانات البيومترية أثناء التصويت، واجهت معارضة شديدة من الأجانب، خصوصاً من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو والأمم المتحدة. حتى أن بعض اللاعبين المحليين البارزين، مثل حامد كرزي وعبد الله عبد الله، عارضوا ذلك. وفي اجتماع مشترك لسفراء الدول في القصر الرئاسي، هددوا الرئيس بأنه إذا تم تنفيذ هذا الخطة، ستحدث اضطرابات واسعة في كابل. وعلى الرغم من هذا الرفض، بدأ توزيع البطاقات، والذي ما زال يُعتبر حتى اليوم أهم إنجاز في حقبة الجمهورية.
من خلال شبكة المنظمات غير الحكومية وسياسة تمكين أمراء الحرب، روّج الأجانب لمصطلح جديد: "الأشخاص المؤثرون وذوو النفوذ". وكان الهدف من وراء ذلك إبقاء الحكومة المركزية دائماً خاضعة لرغبات هؤلاء الأشخاص.
وبنتيجة هذه السياسة، لم تُجرَ انتخابات مجالس المديريات ولا انتخابات البلديات طوال عشرين عاماً، لأن هؤلاء "المؤثرين" كانوا يعارضون التمثيل الشعبي على المستوى المحلي، فيما كان الأجانب يقفون إلى جانبهم.
الأسباب المشتركة الداخلية والخارجية
إن أزمة أفغانستان في العقود الأخيرة لم تكن نتاج المشكلات الداخلية أو التدخلات الخارجية وحدها، بل كانت نتيجة لعوامل مشتركة من الجانبين. وكان أبرزها الاستراتيجية الحربية والسياسات المناهضة للسلام التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد عام 2001، والتي أيدها ونفذها إلى حد ما شركاؤهم الأفغان.
في 7 أكتوبر 2001، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش عن بدء عملية "الحرية الدائمة"، موضحاً أن هدفها هو "إسقاط نظام طالبان وإضعاف تنظيم القاعدة". وأكد وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، بشكل صريح أنه "يجب أن يُقضى على طالبان بالكامل". أما الحلفاء الجهاديون الأفغان، الذين وصلوا إلى السلطة بدعم أميركي وكانوا مخمورين بالنفوذ، فقد تبنوا موقفاً مؤيداً للحرب. على سبيل المثال، قال حامد كرزي عام 2002 عن طالبان: "إذا كان الملا عمر هناك، فسيتم القبض عليه".
في العام نفسه، قدم الملا عمر عرضاً للاستسلام والسلام، لكن هذا العرض قوبل برفض قاطع من رامسفيلد وزعماء الحرب الأفغان. حينها أعلن حامد كرزي أن السلام مع "طالبان المجرمين" أمر مستحيل. ومنذ تلك اللحظة وحتى عام 2017، فُرضت سياسة تهدف إلى إبقاء الحرب مشتعلة ومنع السلام في أفغانستان. ولتبرير هذه السياسات، استغل الغرب بشكل منهجي وسائل الإعلام التابعة للمنظمات غير الحكومية، والشخصيات الليبرالية، وزعماء الحرب، بل وحتى النزاعات القومية.
في عام 2013، وضعت الحكومة الأفغانية آنذاك شروطاً صعبة لبدء محادثات السلام، جعلت من قدوم السلام أمراً شبه مستحيل على أرض الواقع. وبفعل الاستراتيجية الحربية الأميركية، ارتفع مستوى القصف الوحشي في أفغانستان بعد عام 2002. وحتى ألمانيا، التي لم ترسل جيشها خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية، أرسلت قوات برية وجوية إلى أفغانستان، ما تسبب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين.
خلال هذه الفترة، تم تسليم عدد كبير من الأفغان الأبرياء، بتهمة الانتماء لطالبان، من قبل زعماء الحرب الجهاديين إلى الأميركيين، فامتلأت بهم سجون باغرام وغوانتانامو، وتعرضت حفلات الزفاف للقصف، واختفى آلاف الأشخاص في سجون سرية. وحتى باراك أوباما، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، أرسل خلال تلك السنوات أكثر من 110 آلاف جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان، مما زاد الحرب اشتعالاً.
وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة من جهة تشجع الحكومة والجيش الأفغاني على القتال، ومن جهة أخرى تُبقي على اتصالات دبلوماسية سرية مع طالبان في أوروبا ودول الخليج، دون علم الحكومة الأفغانية بذلك.
وخلاصة القول، فإن السياسات المناهضة للسلام والمرتكزة على العنف، التي تبنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الدوليون وزعماء الحرب الأفغان وشبكة المنظمات غير الحكومية، تضافرت لتمنع نشوء عملية سياسية ديمقراطية حقيقية في أفغانستان، ولتطيل أمد الحرب.
الوضع بعد عام 2018
من خلال تمكين أمراء الحرب، ودعاة المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الموازية، والحفاظ على ضعف الحكومة المركزية، تمكّن المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الأفغان، خلال السنوات الست عشرة الأولى، من تعطيل المسار السياسي الشعبي في البلاد. حال هذا الوضع دون إيجاد آليات حقيقية، بملكية أفغانية، لتحقيق التوافق السياسي العام، وظلت التحركات في معظمها فردية.
كانت الولايات المتحدة قد أقامت مسبقاً اتصالات سرية مع حركة طالبان، لكن هذه العلاقات أصبحت علنية في عام 2018. وبسبب التغيرات السريعة في النظام الدولي، بدأت واشنطن منذ ذلك العام تتحدث بشأن القضايا الجوهرية الخاصة بأفغانستان مع طالبان فقط، بينما اقتصرت تعاملاتها مع الحكومة الأفغانية على مسائل هامشية. كما استطاعت إقناع دول إقليمية مهمة، مثل الصين وروسيا وحتى إيران، بأن حكم طالبان يصب في مصلحتها. وفي إطار هذه السياسة، وبمبادرة أمريكية، عُقدت مؤتمرات موسكو وبكين وطهران وطشقند بمشاركة طالبان.
في فبراير 2018، عرضت الحكومة الأفغانية على طالبان التفاوض دون أي شروط مسبقة، لكن الحركة رفضت ذلك العرض، وقبلت الولايات المتحدة ضمنياً بموقف طالبان، لتبدأ لاحقاً مفاوضات علنية مع الحركة من دون إشراك الحكومة الأفغانية. وكانت الحكومة بحاجة إلى إجماع سياسي واسع لتنفيذ عرضها، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك في مواجهة الموقف الأمريكي. كما تمكنت واشنطن من فصل أمراء الحرب، والسياسيين المرتبطين بالمنظمات غير الحكومية، والناشطين المدنيين –الذين أنشأتهم هي بنفسها– ووسائل الإعلام التي دعمتها، عن الحكومة، وقسّمتهم إلى أجندات فردية وجماعية، حتى أن بعضهم وقف في ردهات فنادق طالبان منتظراً مبايعتها.
هل كان بإمكان الحكومة الأفغانية أن تبذل جهداً أكبر لتحقيق هذا الإجماع؟ نعم، كان ذلك ممكناً، لكن النتيجة كانت ستبقى معدومة، لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع بنفوذ وقوة غير مسبوقين، ومن جهة أخرى، لم تكن هناك أي قواعد أو مؤسسات مقبولة للمسار السياسي. النتيجة كانت تهميش الحكومة الأفغانية، بينما كان أمراء الحرب يحلمون في ردهات فنادق الدوحة وموسكو وطهران وإسلام آباد بإسقاط النظام الجمهوري وحجز مكان لهم في "الحكومة الإسلامية" الجديدة.
في 29 فبراير 2020، وبعد "اتفاق الدوحة" سيئ السمعة، مضت الولايات المتحدة في تنفيذ كل شيء مع طالبان –بتفاصيله– استناداً إلى تفاهمات سرية وعلنية، ورسمت الخطوات النهائية لسقوط الحكومة الجمهورية. ولم تكن المفاوضات المباشرة بين الحكومة الأفغانية وطالبان جزءاً من الخطة منذ البداية، ولم تُعقد حتى النهاية؛ فالمفاوضات الحقيقية كانت بين الولايات المتحدة وطالبان فقط.
وفي النهاية، ومع التغيرات العميقة في الساحة الدولية، وسعيها للاستعداد للمنافسة مع القوى الكبرى الأخرى، نجحت الولايات المتحدة في استغلال اتفاق الدوحة لعام 2020 لتغيير شكل وجودها في أفغانستان.
سقوط الحكومة الجمهورية: هل كانت هزيمة سياسية أم عسكرية للأفغان؟
باختصار، يمكن القول إن سقوط الحكومة الجمهورية كان أولاً هزيمة سياسية –هزيمة سياسية للأفغان– كما كان فشلاً سياسياً وعسكرياً للعالم وللولايات المتحدة.
كان جنود القوات الوطنية والدفاعية الأفغانية يقاتلون تحت شعار "الله، الوطن، والواجب"، ضحّوا بأنفسهم، وتمكّنوا منذ عام 2015 من الدفاع عن بلدهم رغم وجود حوالي عشرة آلاف جندي أميركي فقط في أفغانستان. لم يتلقَّوا هزيمة عسكرية؛ أما الهزيمة الفعلية فكانت للطبقة السياسية التي فضّلت السياسة الفردية والليبرالية والحربية و"المنظّمة" على السياسة الشعبية والتنظيمية الحقيقية. وكانت النتيجة أن ملكية القوات الأمنية والدفاعية الوطنية على المستوى الاستراتيجي بقيت غامضة بالكامل.
قبل شهرين فقط من السقوط، غادرت أكثر من 100 شركة أمريكية متعاقدة في اللوجستيات العسكرية –المسؤولة عن إمداد القوات الأفغانية– أفغانستان دون أي خطة واضحة لنقل المسؤوليات إلى الحكومة الأفغانية. وأدى ذلك إلى أزمة لوجستية مفاجئة على مستوى البلاد للقوات الوطنية.
في يونيو 2021، قدم رئيس الأركان الأميركي وقائد "سنتكوم" خطة مستحيلة للحكومة الأفغانية أُطلق عليها اسم "خطة تركيز القوات الأفغانية". وبكلمات بسيطة، كان معناها أنه إذا أرادت الحكومة الأفغانية دعم الولايات المتحدة، فيجب عليها سحب جميع القوات المدنية والعسكرية من جميع المحافظات الـ34. كانت هذه الخطة غير قابلة للتنفيذ من الناحيتين اللوجستية والسياسية.
لم يُسمح بطائرات النقل والمقاتلة التابعة للقوات الجوية الأفغانية، والتي أُرسلت للخارج للفحص الفني، بالعودة من قبل الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، في يوليو 2021، أُبلغ عدد من الضباط الأفغان بأنهم سينتقلون مع عائلاتهم إلى الولايات المتحدة. وكان كل ذلك يحدث بينما وصلت الولايات المتحدة وطالبان إلى التفاصيل النهائية لتسليم السلطة وفق الاتفاقات السرية والعلنية في الدوحة.
باختصار، كان سقوط الدولة الجمهورية هزيمة سياسية لا عسكرية؛ لأن ملكية النظام لم تكن في يد الأفغان.
هل كانت أفغانستان حقاً مستعدة للديمقراطية؟
الديمقراطية الليبرالية المستنسخة من الدول الأجنبية في أفغانستان تُسهم فقط في تعزيز الأفراد ولا تمثل الشعب، ومن البداية كانت مهيأة للفشل. وقد حدث ذلك بالفعل، فشلت ولم تُقبل من المجتمع. الأفغان يريدون ويقبلون سياسة شعبية حقيقية؛ سياسة تعتمد على تمثيل الناس من داخل المجتمع، بحيث يشعر الشعب بمشاركته في القرارات الوطنية من خلال ممثليه.
في أفغانستان، لم يقتصر فشل السياسيين الأفراد على السياسة فحسب، بل فقدوا كل مصداقيتهم السياسية والاجتماعية. الاعتماد على الأفراد لمستقبل البلاد السياسي عمل خاطئ وغير مسؤول. هذا النظام جُرّب لمدة عشرين سنة وفشل.
النضال الأفغاني ضد الاستبداد والديكتاتورية ليس حديثاً. في أوائل القرن العشرين، كان هناك حركة المطالبين بالدستور، وبعد عام 1950 ظهرت حركات أفغانية ضد الاستبداد والدكتاتورية. هذه الحركات لم تكن ممولة من الخارج، وكانت لها جذور شعبية في الولايات والمناطق، وفي النهاية تمكنت من تحويل الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية عام 1964.
في ذلك الوقت، كانت هناك مجلس الشعب ومجلس الشيوخ، وكانت الانتخابات تُدار بميزانية أفغانية وبملكية وإدارة أفغانية. ربما كانت هناك نواقص، لكن العملية كانت تحت سيطرتنا، ومع مرور الوقت كان بالإمكان تحسينها وإصلاحها. إذن، أفغانستان تمتلك تجربة ديمقراطية شعبية من خلال ابتكارها وملكية شعبها، وهي ترغب في استمرارها.
المجلس الكبير هو ظاهرة قديمة لتمثيل الشعب الأفغاني، وقد أدخل الدستور لعام 2004 إصلاحات واسعة لجعله أكثر ديمقراطية. في ثقافتنا، إذا لم يُستشر أفغاني في تخطيط زفافه ولم يُأخذ رأيه بعين الاعتبار، فلن يوافق على الزواج وسيشعر بالاستياء. وعلى المستوى الوطني، الأمر نفسه: يريد الأفغان أن يشاركوا في القرارات الوطنية من خلال ممثليهم، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية.
هل تسلّم طالبان السلطة لأنها تفهم نبض المجتمع؟
طالبان ليس لديهم أي صلة حقيقية بأي طبقة من المجتمع، لا في صغرهم ولا في كبرهم، فكيف يمكنهم فهم نبض المجتمع؟ معظم أعضاء طالبان نشأوا بعيدين عن الروابط العاطفية والإنسانية لعائلاتهم وقراهم ومجتمعاتهم. كيف يمكن لشخص تربى في مركز استخبارات ديني أجنبي، بعيداً عن دفء العائلة ومحبتها، أن يفهم ألم الأب، الأم، الأخت أو الأخ؟
إنهم لا يملكون علاقة حقيقية بأي شريحة من المجتمع؛ لا مع المعلمين والعلماء، ولا مع الفلاحين والحرفيين، ولا مع الزعماء القوميين والمسنين. وصول طالبان إلى السلطة نتيجة فشل الطيف السياسي الأفغاني، وغياب الأحزاب السياسية الشعبية، والفراغ السياسي الموجود في المجتمع. تاريخياً، تستخدم القوى الاستعمارية في الدول الفقيرة الجماعات الدينية المتطرفة لقمع ومنع الحركات الشعبية، وطالبان مثال واضح على ذلك.
الاضطهاد الحالي
الحكم الذي مارسته طالبان خلال الأربع سنوات الماضية، من حيث طبيعته، يعكس تماماً فترة التسعينيات السوداء. شكل وطبيعة القمع مشابهة إلى حد كبير لما كان في تلك الحقبة، والفرق الوحيد أن طالبان في المرحلة الحالية يمارسون نفاقهم بشكل صريح وواضح جدًا.
على سبيل المثال، مُنع نصف سكان البلاد ـالنساءـ من التعليم والعمل، وأصبح البلد بأكمله أشبه بسجن كبير؛ في المقابل، النساء الغربيات -اللواتي يأتين كسياحات أو كممثلات استخباراتيات- يحضرن الاجتماعات، يلتقطن الصور ويضعن الزهور على الطرقات. ترسل طالبان رسائل دعائية باللغة الإنجليزية لداعميهم الغربيين حول حقوق النساء، بينما يتعاملون مع النساء الأفغانيات بالعصا والقيد.
تعمل القوى الاستعمارية الأجنبية، لحماية مصالحها والتنافس مع القوى الكبرى الأخرى، على إبقاء الشعب الأفغاني، وخصوصاً النساء، تحت قمع النظام المتطرف لطالبان. في هذه العملية، اقتنعت بعض اللوبيات الأفغانية ببساطة أو بسبب تأثير الدعاية الأمريكية بأن طالبان قد تغيروا، بينما سعى آخرون عمداً لتبييض صورة طالبان عبر الحصول على مشاريع، مع العلم التام أن طالبان لا يغيرون مبادئهم.
لقد ألحق حكم طالبان الاستبدادي خلال السنوات الأربع الماضية أضراراً بالغة بالبلاد والشعب، وستكون آثارها على المدى المتوسط والطويل سبباً لكارثة كبيرة. مثل أساتذتهم السابقين الذين دمروا الركائز الأساسية للهوية الأفغانية في أعوام 1929 و1992 و1996، ألغى طالبان العقد الاجتماعي الوحيد والموثوق بين الشعب والدولة ـ الدستور. كما قاموا بفرض رقابة على كتب التاريخ، وأبادوا الآثار التاريخية التي تعود لما قبل الإسلام، وقضوا على الفنون مثل السينما والموسيقى والرسم.
أهم ركيزة للهوية، وهي التعليم، تعرضت لهجوم متعدد الأوجه من النظام الاستبدادي لطالبان. إغلاق أبواب العمل والتعليم أمام عشرين مليون امرأة وفتاة أفغانية ليس ظلماً فحسب، بل يُعتبر أكبر خيانة، فساد وإبادة فكرية في القرن الحادي والعشرين.
إلى جانب اقتلاع جذور الهوية الأفغانية، يُمارس الحكم في البلاد بطريقة تجعل كبار السن يُهانون يومياً، والطلاب يتعرضون للإساءة، وتتعرض النساء للمضايقات من الرجال غير المحارم في الأسواق، ويُلقى بهن في السجون ثم يُفرج عنهن بكفالة عائلية بلا حياء. وقد سجّلت طالبان مئات الحوادث التي شملت الإساءة الجنسية للنساء والفتيان.
على الرغم من أن طبيعة طالبان وفكرهم كانت واضحة للجميع منذ البداية، إلا أنهم خلال الأربع سنوات الماضية قدموا للشعب تجربة عملية لحكمهم القمعي. والآن، لا تملك طالبان الجرأة الأخلاقية، ولا داعموهم الأجانب أو اللوبيات، لإلقاء اللوم على مشاكل الجمهورية.
يجب أن نتذكر أنه كمواطنين أفغان، تقع على عاتقنا مسؤولية حماية الوطن والشعب من القمع المستمر. لا يمكننا أن نيأس، ويجب أن نقول بصراحة إن اليأس ليس من عاداتنا. يسعى الاستعمار والمتطرفون الدينيون لإحباطنا، لكن علينا أن نحبط آمالهم.
في المستقبل، يجب أن نثق بأنفسنا. يحاول الاستعمار ومن يستفيد منه زرع فكرة في الشعب تقول إن كل شيء ممكن فقط بموافقتهم وإشارتهم. نعم، معظم الأفعال تتم بتوجيه من القوى الاستعمارية وعبر مجموعاتهم العميلة، لكن كل خطوة يقومون بها تمثل لنا مثالاً على فترة الظلام في التسعينيات، أو على القمع والاستبداد خلال الأربع سنوات الماضية.
الدروس المهمة من التجارب السابقة هي أن الحرب ليست سوى لصالح الاستعمار ومجموعاتهم العميلة. الحرب ليست أبداً حلاً. المؤيدون للحرب هم إما جنرالات التسعينيات وأبناؤهم، أو تلك الحروب تتم تحت إدارة أجهزة الاستخبارات والقوى الكبرى الإقليمية، ولا يمتلك الأفغان فيها أي قرار.
نحن، الذين نؤمن بالديمقراطية الشعبية، يجب أن نبتعد تماماً عن الحرب وإراقة الدماء التي تتم بأموال وسيطرة الأجانب. درس آخر مهم من تجربة الجمهورية لمدة عشرين سنة هو الابتعاد عن أي تيار يعيق بناء المؤسسات السياسية الوطنية أو العملية السياسية الشعبية. غالباً ما تكون هذه التيارات منظمات فردية تدعمها دول أجنبية مالياً وسياسياً وتتعاون مع طالبان، حتى أنها تنظم مؤتمرات ممولة حول تعليم وعمل النساء.
العواقب واضحة: كلما حاولت بعض الشخصيات المؤسسية، الكتاب والصحفيون تبرير موقف الاستبداد الحالي عقلياً أو دينياً فيما يخص تعليم وعمل الفتيات، كلما استمر الاستبداد المعادي للتعليم، ويظل نصف سكان بلادنا محرومين من التعليم والأنشطة الاجتماعية. كما يُحرم الرجال أيضاً من حقوقهم الأساسية بسبب الانحطاط المستمر والقمع.
الحل الدائم والواقعي هو إنشاء منظمات سياسية مستقلة على أساس العملية السياسية الشعبية، لا تستلهم فكرياً من الخارج، ولا تتلقى تمويلاً عسكرياً أو اقتصادياً. الخطوة الأولى هي أن تختار هذه المنظمات قادتها عبر آلياتها الداخلية وانتخاباتها لإنشاء بنية حزبية. الخطوة الثانية هي الاتفاق على قواعد اللعب بين المنظمات للتنسيق والتفاعل، بحيث يشارك في العملية السياسية فقط من له سجل نضالي في التنظيمات ويكون عضواً أو قائداً قائماً. الخطوة الثالثة هي إعداد وثيقة تفاهم وطني تحدد مبادئ العمل المشترك وتمهد الطريق لإجماع وطني، شريطة أن يكون العمل أفغانياً وخالياً من النفوذ الخارجي.
هذه العملية طويلة ومرهقة ومليئة بالعقبات، وستواجه ضغوطاً خارجية. الطبقة السياسية الحالية، التي اعتادت على الاعتقاد لسنوات أن أي تغيير يأتي فقط من الخارج، ستقاوم هذا التوجه. لكن التاريخ يظهر أن هذه هي الطريقة الوحيدة الصحيحة والواقعية.
الطرق الأخرى، خاصة الفردية أو المدعومة من الخارج، جُربت ولم توفر ضماناً سياسياً دائماً. لحسن الحظ، بدأت بوادر وعي سياسي تظهر تدريجياً بين الجيل الجديد. الشباب يدركون أن الاستقرار السياسي يتحقق فقط عبر الجهد المستمر والتضحيات المدروسة وإطار التنظيمات السياسية، وليس من خلال المشاريع الأجنبية أو الشخصيات الموسمية أو المؤتمرات الدعائية.
باختصار، تُظهر التجارب الدموية للخمسين سنة الماضية في أفغانستان أن السبب الرئيسي لعدم الاستقرار المستمر هو فراغ العملية السياسية الشعبية. هذا الفراغ لا يمكن سدّه إلا من خلال إنشاء تنظيمات سياسية جدية وناضجة على الصعيد الوطني. التاريخ يفرض أن تنتهي فترة السياسة الشخصية، وحان الوقت لاتخاذ خطوات عملية وأساسية لاستمرارية سياسية وطنية وأصيلة ومؤسسية.