وبحسب عدد من الصحفيين الذين وثّقوا سنوات اختفائه، فإن بن لادن كان شديد الوساوس في تفاصيل الحياة اليومية والشخصية لعائلته، وأظهرت رسائله ومراسلاته أنه كان يدير حياته اليومية وحياة عائلته والمقربين منه وفق قواعد صارمة، من بينها توصيته بعدم تنقّل وسفر زوجاته إلا في "أيام غائمة".
الهروب من "أعين السماء"
يشرح الصحفي الأميركي ستيف كول، في كتابه "مديرية إس: السي آي إيه وحروب أميركا السرية في أفغانستان وباكستان"، أن بن لادن أدرك بعد هجمات 11 سبتمبر أن الولايات المتحدة باتت تستخدم مزيجاً من الطائرات المسيّرة، والأقمار الصناعية التجسسية، وشبكات التنصّت الإلكتروني من أجل تعقّب قادة تنظيم القاعدة واصطيادهم. وقد استهدف عشرات القادة من الصف الأول في التنظيم ومقاتليه في منطقة وزيرستان الباكستانية بضربات جوية شنّتها الطائرات المسيّرة.
لم تكن المسيّرات التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) مجرّد أدوات قتل، بل أدوات مراقبة وتعقّب دائمة أيضاً.
وتظهر هذه الوقائع بشكل مباشر في رسائل بن لادن، حيث شدّد مراراً على ضرورة أن يتعامل رجاله بذكاء ويقظة مع فاعلية التكنولوجيا العسكرية الأميركية، للحد من قدرتها على ملاحقة عناصر التنظيم.
خبر مقتله تصدّر عناوين الصحف العالمية
أجبر بن لادن أفراد عائلته ومرافقيه على الالتزام الصارم بالطقس عند تنقلاتهم، موصيًا بأن تتم جميع تنقلاتهم فقط في الأيام الغائمة.
وبحسب بعض المصادر، فقد كان لابن لادن خمس زوجات: نجوى غانم وخديجة شريف وخيرية صابر وسهام صابر وأمل أحمد السادة.
ويكتب ستيف كول أن هذه التوصية، أي السفر في الأيام الغائمة، برزت بشكل خاص في أثناء محاولة تهريب بعض أفراد عائلة بن لادن من إيران: "بعد سقوط حركة طالبان، أقام عدد من زوجات وأبناء بن لادن، وبينهم حمزة، لفترة في إيران. وفي إحدى رسائله إلى مساعديه، شدّد بن لادن على أن تهريب زوجته وابنه من إيران يجب أن يتم فقط في الأيام الغائمة، لأن الغيوم الكثيفة قادرة على حجب الرؤية المباشرة للطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية المزوّدة بكاميرات ضوئية، ما يقلّل من احتمال كشف مسار حركتهم".
وفي رسائل أخرى، أوصى بن لادن أتباعه في شمال أفريقيا بزراعة مزيد من الأشجار لتوفير غطاء طبيعي يحجب الرؤية عن "عيون السماء". فقد كان يعتبر أن اختيار توقيت الحركة وتعديل البيئة المحيطة عنصران أساسيان لحماية أفراد التنظيم من الرصد.
ويقول بعض الصحفيين إن هذه التوصية كانت من الناحية التقنية مبرَّرة، إذ إن معظم الطائرات المسيّرة الأميركية تعتمد على كاميرات بصرية وأخرى تعمل بالأشعة تحت الحمراء للتعرّف الدقيق على الأهداف. ويمكن للسُحب الكثيفة والضباب أن يخفضا جودة الصورة ويُربكا عمل المشغّلين أو خوارزميات التعرف الآلي.
خشية بن لادن من زرع أجهزة تتبّع في أجساد أبنائه على يد أطباء إيرانيين
بحسب ما يورده ستيف كول، أعرب بن لادن في عدد من رسائله عن مخاوفه من أن "الأطباء الإيرانيين، بذريعة العلاج"، قد يقومون بزرع شرائح تتبّع في أجساد أبنائه. وقد ذهب في تلك الرسائل إلى حدّ وصف شكل الشريحة المحتملة وحجمها، حيث كتب لأبنائه: "قد يبدو الحقن أمراً طبيعياً، لكن الإبرة ستكون أكبر من المعتاد، أما الشريحة فقد تكون بطول حبّة قمح، لكنها رفيعة وملساء للغاية".
ويُظهر ما رواه ستيف كول أن بعض أفراد عائلة بن لادن لجأوا إلى إيران بعد الضغوط الأمنية التي تعرّض لها التنظيم خلال عامي 2002 و2003. ويقول: "الوثائق التي عُثر عليها بعد اعتقال خالد شيخ محمد، المتهم الرئيسي في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أظهرت أن أبناء بن لادن وزوجاته دخلوا إيران بجوازات سفر وتأشيرات رسمية عبر مدينة كراتشي. وقد دخل ابنه سعد وزوجتاه الأكبر سناً الأراضي الإيرانية تحديداً في عام 2002".
ويضيف الصحفي الأميركي أن الرسائل التي كُتبت في السنوات التالية تؤكّد استمرار وجودهم في إيران. ففي عام 2010، كان بن لادن يفكّر بنقل ابنه حمزة من إيران إلى قطر، لكن عطية عبد الرحمن –أحد قيادات القاعدة– نصحه بعدم فعل ذلك في الوقت الحالي، قائلاً إن "الطريق ونقاط التفتيش" بين إيران وبيشاور محفوفة بالمخاطر.
"اشتروا ذهباً بفدية المواطن الأفغاني"
بحسب ما يقوله الصحف ستيف كول، كان أسامة بن لادن ابن أسرة تجارية عربية ومتعلّم وجامعي، يرى نفسه خبيراً في الشؤون المالية أيضاً. وقد اعتاد تقديم نصائح دقيقة، وإن كانت أحياناً خارجة عن المألوف، في مجالات الاستثمار. ففي إحدى رسائله عام 2010، أوصى بأن يتم استثمار الأموال الناتجة عن عملية خطف أحد المواطنين الأفغان في "الذهب، واليورو، والدينار الكويتي، واليوان الصيني".
وكان بن لادن متفائلاً جداً بالذهب، لاعتقاده أن كلما اشتدّت الأزمات العالمية ارتفع سعره، وهي أزمات كان يسعى عمداً إلى تفجيرها بحسب قناعته. وفي الرسالة نفسها، أوصى أحد مساعديه بمتابعة تقلبات الأسعار، والشراء فور توفّر الفرصة عند مستوى 1500 دولار للأونصة.
ويقول ستيف كول إن هذا التفكير المالي لم يكن مقتصراً على توصيات شخصية فقط، إذ كان بن لادن لا يزال يحتفظ بوصول مباشر إلى موارد القاعدة المالية. وفي إحدى المرات، طلب سحب 30 ألف يورو من "صندوقه الشخصي"، وهو صندوق يُعتقد أنه كان مخصّصًا لتلبية نفقاته الخاصة ويخضع لإدارة لجنة التمويل في التنظيم.
ويضيف كول أن بن لادن كان يرفض تماماً استخدام النظام المصرفي، لتجنّب إمكانية تتبّع مصادر الأموال. وبدلاً من ذلك، اعتمد على شبكة بشرية تتكوّن من رُسل، ووُسطاء موثوقين، ومزوّري وثائق، لنقل الأموال نقداً. هذا النمط من التحويل المالي –مقترناً باستخدام هويات مزوّرة– جعل من شبه المستحيل تتبّع حركة الأموال عبر الأنظمة الرسمية.
وكان المنزل الذي أقام فيه في أبوت آباد خالياً تماماً من خطوط الهاتف أو الإنترنت، كما كانت نفاياته تُحرَق بشكل دوري، لضمان عدم بقاء أي أثر قد يكشف عن مصادر الأموال أو هوية المراسلين.
يقال إن كثيراً من سكان المنطقة لم يكونوا يعلمون أن هذا المنزل كان مقر إقامة بن لادن
سقوط "الدرع الغائم" وانهيار القاعدة
رغم كل تلك الوساوس والتدابير الاحتياطية الدقيقة، فإن استراتيجية أسامة بن لادن للاختباء عن "عيون السماء" والتكنولوجيا الرقابية الأميركية لم تُفلح في نهاية المطاف. فمنذ عام 2002، كانت فرق تحليلية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) تلاحق بشكل دائم الرسل الذين ينقلون الرسائل والأموال إلى بن لادن.
وفي النهاية، تمكّن المحققون من تعقّب "أبو أحمد الكويتي" بعد جمع خيوط من التحقيقات، والتنصت، والمتابعة الميدانية، حتى تم تحديد سيارته ورصد تحركاته وصولاً إلى مجمّع أبوت آباد.
هذا الاكتشاف مهّد الطريق لتنفيذ عملية "رمح نبتون" عام 2011، وهي عملية نفذتها فرقة من الكوماندوز التابعة للبحرية الأميركية، واقتحمت خلالها المنزل وقتلت بن لادن في الطابق العلوي، رغم التحديات غير المتوقعة التي واجهت القوة خلال العملية.
وكان لمقتله آثار هائلة: فقد رآه كثيرون بمثابة "عدالة تأخّرت" لضحايا هجمات 11 سبتمبر، فيما أدّى إلى تفكيك الفرع المركزي لتنظيم القاعدة، وتسليم القيادة إلى خليفة أضعف، وهو أيمن الظواهري، الذي قُتل لاحقاً في كابل عام 2022 بضربة جوية أميركية.
وعلى مدى ما يقارب عشر سنوات، استطاع بن لادن أن يتخفّى عن العدو بفضل احتياطاته، ومن بينها ما عُرف بـ"عقيدة الأيام الغائمة"، لكنه في النهاية قُتل على يد العدو نفسه.
أما اليوم، ومع تطور تكنولوجيا الرادارات التي باتت قادرة على الرصد عبر الغيوم وحتى في ظلام الليل، فلم تعد تلك النصيحة القديمة صالحة كما كانت. فإذا كانت الغيوم تمثّل ذات يوم درعاً طبيعياً يحجب الرؤية عن "عيون السماء"، فإنها الآن لم تعد تشكّل عائقاً حقيقياً أمام التقنيات الحديثة.
ويعكس هذا التحوّل عمق التغيرات التي طرأت في أقل من عقد واحد على طبيعة الحرب والرصد، تغيرات حسمت مصير زعيم القاعدة، وأثبتت أن حتى أكثر الاستراتيجيات احتياطاً ووسواساً قد تنهار عاجلاً أو آجلاً أمام القوة المتزايدة للتكنولوجيا.