في نوفمبر 2010، أنزل جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني عبر طائرته "إي إكس 900" من الخليج رجلاً ملثماً قيل إنه المبعوث الخاص للملا عمر، على مدرج مطار ميونيخ في برد الشتاء، وأسكنه في فندق فاخر.
كانت تلك بداية المباحثات السرّية بين حركة طالبان والولايات المتحدة، التي عُرفت لاحقاً بـ"عملية الدوحة". وبنتيجة المحادثات بين طيب آغا والوفد الأميركي افتتحت طالبان مكتبها في قطر، كما أُفرج من معتقل غوانتانامو عن عدد من كبار مسؤوليها مقابل إطلاق الجندي الأميركي الأسير بو بيرغدال.
كانت الاستخبارات الألمانية استضافت عام 2005 في زيورخ ممثلين اثنين لطالبان في فندق لإجراء محادثات، لكنها لم تُسفر عن نتائج تُذكر، لأن الملا محمد عمر كان يُظهِر ابتعاده عن "القاعدة". وفي عام 2009 أبلغ أفغاني مقيم في ألمانيا سلطات البلاد بأنه يستطيع، إذا أرادت برلين محادثات حقيقية، أن يصلها بـ"الرجل الأساسي" لدى طالبان. كان ذلك الرجل طيب آغا الذي أُقصي من المسار بعد وفاة الملا عمر.
مثّلت "عملية الدوحة" -من جنيف إلى مكة، وإسلام آباد، والمالديف، وطشقند- المحاولة الثانية عشرة لإحلال السلام في أفغانستان؛ لكن بعد توقيع الاتفاق، أعادت طالبان تكرار التاريخ ولم تَفِ بالالتزامات التي قطعتها للمجتمع الدولي وللأفغان في قطر وموسكو وسواهما.
من جنيف إلى الدوحة (1988–2020) شهدت أفغانستان نحو 12 مساراً كبيراً وصغيراً للسلام، لم يضع أيٌّ منها حداً للحرب. في كل مرة طُرحت وساطات دولية وتعهدات بوقف إطلاق النار وصِيَغ لتقاسم السلطة على طاولة الحوار، لكن صوت الحرب ظلّ غالباً على أرض الواقع.
تشي هذه المحاولات الفاشلة المتعاقبة، على امتداد 37 عاماً من تاريخ الحرب الأفغانية، بمسألة واحدة: فالحرب الأفغانية دارت على محاور الضغوط الخارجية، وتنازع القيادات على السلطة، وعمق انعدام الثقة. لذلك بقيت اتفاقات السلام حبراً على ورق، ولم تُحدث أثراً في واقع حياة الناس ولا في مسار ترسيخ سلام دائم.
إن تكرار الفشل عشر مرات في محاولات السلام خلال ما يقارب أربعة عقود أمر نادر في التاريخ البشري، غير أن مفاوضات السلام الأفغانية تشترك في عوامل التعثّر ذاتها عبر جميع المسارات.
جنيف.. انسحبت القوات السوفياتية
في 27 ديسمبر 1979 غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان ونصّب "ببرك كارمل" في الحكم. وبدأ مقاومو "المجاهدين" مواجهةً قاسية ومستمرة، حظيت بدعم واسع من الولايات المتحدة وباكستان والسعودية ودول عربية أخرى. أصبحت الحرب مُكلِفة للسوفييت، ومع ضعف الاقتصاد والضغط الدولي وشدة المقاومة الأفغانية، قرر غورباتشوف الانسحاب. وفي 14 أبريل 1988، وُقِّع "اتفاق جنيف" برعاية الأمم المتحدة بين أفغانستان وباكستان والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وركّز على انسحاب القوات السوفياتية، وامتناع باكستان عن التدخل في شؤون السلطات الأفغانية، وعودة اللاجئين. وبموجب الاتفاق:
يجب أن تنسحب القوات السوفياتية من أفغانستان بحلول 15 فبراير 1989.
التزمت الولايات المتحدة وباكستان بوقف دعم "المجاهدين" (وهو ما لم يُطبَّق عملياً).
يجب على أفغانستان وباكستان عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما بعضاً.
ينبغي تهيئة التسهيلات اللازمة لعودة اللاجئين.
انسحبت القوات السوفييتية بموجب الاتفاق، لكن حكومة نجيب الله استمرت حتى ربيع 1992، لأن الاتحاد السوفييتي قدّمت لها دعماً اقتصادياً وعسكرياً واسعاً.
تولى نجيب الله السلطة في 4 مايو 1986 رئيساً لأفغانستان وزعيماً للحزب بعد استقالة ببرك كارمل. دعمه الاتحاد السوفييتي لأنه كان رئيس جهاز الاستخبارات المعروف بـ"خاد"، ويتمتع بنفوذ واسع، وكان أصغر سناً نسبياً، حازماً، وقادراً على التفاوض. قُدِّم وجهاً جديداً للسلم والمصالحة بعدما أضعفت الخلافات الحزبية وغياب الشرعية سلفه ببرك كارمل.
ورغم معارضة شديدة داخل الحزب من مقرّبي كارمل، مثل فريد مزدك ونبي عظيمي ومحمود بريالي وآخرين، أعلن نجيب الله في 15 يناير 1987 في مجلس "لويا جيرغا" التقليدي -الذي يجمع وجهاء وشيوخ القبائل في حوار وطني- برنامج "المصالحة الوطنية". وتمثلت أبرز نقاطه في عرض وقف إطلاق النار، وإعلان عفو عام، والسماح بنشاط الأحزاب السياسية، وخلق عملية سياسية مشتركة.
حملت هذه العملية مزايا عدة، إذ كانت أول إعلان صريح على لسان الرئيس للحوار والمصالحة. فُتح باب جديد للتنوع السياسي واستيعاب المعارضين، ومنحت الناس أملاً ببديل في ظروف إنهاكهم من طول الحرب، وتمكّن نجيب الله عبر مسار المحادثات من الحفاظ على السلطة لسنوات بعد انسحاب السوفييت.
في المقابل، أعاقت الانقسامات العميقة داخل جناحي الحزب -خلق، وبرتشم "العَلَم"- تنفيذ العملية. رفض "المجاهدون" "خصوصاً المجموعات المتأثرة بباكستان" البرنامج، واعتبروه "خدعة من الشيوعيين". عاد الكثير من الأفغان وقادة "المجاهدين" إلى البلاد، لكن لم تكن هناك آلية عملية للسلام وبقي الأمر في حدود الشعارات. كان انعدام الثقة سبباً أساسياً، فلم يثق "المجاهدون" ولا الناس به بالكامل. كما أن الاتحاد السوفييتي كان قد خسر الحرب، فلم يحظَ برنامج نجيب الله بدعم دولي كامل. وداخل الجيش، مهّدت تمردات بعض الجنرالات لزيادة ضعف النظام.
وعلى الرغم من "اتفاقات جنيف"، واصلت الولايات المتحدة بعد الانسحاب تقديم الدعم لـ"المجاهدين"، فاشتدت الحرب، وتراجعت قدرات حكومة الدكتور نجيب الله تدريجياً مع تقلص الموارد حتى شارفت الإفلاس. وقد قادت شدة القتال، واستمرار الدعم الإقليمي والدولي للمجاهدين، وخلافات الحزب الشيوعي، وانعدام الثقة ببرنامج المصالحة، واستعجال المجتمع الدولي، إلى اقتراب الحكومة من السقوط، فاضطر نجيب الله إلى الاستقالة، وتعطّل برنامج المصالحة.
كان برنامج المصالحة الوطنية في أفغانستان مبادرة تاريخية للسلام، إذ أُطلق لأول مرة في البلاد، لكنه فشل بسبب الانقسامات الداخلية، وغياب الثقة الدولية، وتصلب المعارضين، والتدخل المباشر لباكستان، واستمرار الدعم الدولي للحرب. ومع ذلك تُعدّ هذه المرحلة محطة مهمة في تاريخ السلام الأفغاني، وتُذكر حتى اليوم بوصفها "فرصة ضائعة".
نجيب الله يستقيل و"المجاهدون" لا يتوافقون على السلطة
في 16 أبريل 1992، وبعد استقالة الدكتور نجيب الله، نشأ فراغ سياسي كبير في كابل وتلاشت "الدولة العميقة". سعت الأمم المتحدة إلى دفع عملية سلام عبر حكومة انتقالية، لكن قادة المجاهدين رأى كلٌّ منهم نفسه الأحق بالسلطة.
ضغطت قوات الجنرال عبد الرشيد دوستم على كابل من الشمال. وفي الشرق، دفع الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار قواته نحو العاصمة. ودخل حزب الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني، تحت إمرة أحمد شاه مسعود، من جهة بنجشير. كما طالب "حزب الوحدة بزعامة عبد العلي مزاري بحصة في السلطة في كابل.
في أواخر أبريل 1992 دخل المجاهدون العاصمة وأُعلن تشكيل "حكومة انتقالية للمجاهدين"، وعُيّن برهان الدين رباني رئيساً. لكن المساعدات الأميركية توقفت، وسادت فوضى شاملة في كابل.
طالب حكمتيار برئاسة الوزراء ورفض سلطة رباني، فانطلقت الحرب في العاصمة. كما انخرطت قوات حزب الوحدة في الغرب في معارك ضارية مع قوات الجمعية الإسلامية. وبعد أن كان دوستم حليفاً لرباني، تحوّل إلى خصم، فازداد المشهد القتالي تعقيداً.
عملية السلام في إسلام آباد
كانت الحرب في كابل على السلطة، لكن مفاوضات السلام على تقاسمها كانت تجري أيضاً. في مارس 1993 بدأت محادثات مباشرة، وعُقدت الجلسة الأولى في إسلام آباد برئاسة الرئيس الباكستاني غلام إسحاق خان.
وُلدت محادثات قادة "المجاهدين" برعاية باكستان تحت ضغط خارجي. وأسفرت عن توقيع "اتفاق إسلام آباد" الذي نص على تقاسم السلطة، فبقي برهان الدين رباني رئيساً للدولة، وعُيّن قلب الدين حكمتيار رئيساً للوزراء. كما وُعد بالدعوة إلى "جيرغا" -الاجتماع القبلي الوطني- لتشكيل حكومة مشتركة وصوغ دستور.
وخلال المحادثات خفّ القتال ولم يتوقف كلياً.
لكن الاتفاق انهار سريعاً. فقد أدت الخلافات العميقة وانعدام الثقة ومساعي احتكار السلطة إلى عودة الحرب. وباتت كابل مرة أخرى هدفاً للصواريخ والقصف، وخبت آمال السلام.
اتفاق السلام في مكة
بعد فشل "اتفاق إسلام آباد"، انطلقت أواخر 1993 مفاوضات مكة امتداداً لذلك الاتفاق، برعاية المملكة العربية السعودية. كان الهدف إنهاء الحروب الداخلية في كابل، وتقاسم السلطة، وتشكيل حكومة مشتركة. شارك في الاجتماع رئيس أفغانستان آنذاك برهان الدين رباني، وقلب الدين حكمتيار، وعبد العلي مزاري، وغيرهم من القادة.
أُنجزت تفاهمات مؤقتة مرتبطة بتعهدات "إسلام آباد"، وأقسم جميع القادة في مكة على المصحف بتنفيذ الاتفاق ووقف القتال، لكن انعدام الثقة بين القادة الجهاديين والسعي إلى احتكار السلطة حالا دون التنفيذ.
محاولات داخلية للسلام في جلال آباد
عقب فشل مفاوضات إسلام آباد ومكة، بدأت في مايو 1993، بطلب من باكستان، عملية تفاوض جديدة في جلال آباد برئاسة الحاج قدير.
بدأت هذه المفاوضات باجتماعات لممثلي القادة الجهاديين، ثم بمشاركتهم المباشرة. هدفها كان إنهاء الحروب الداخلية في كابل، والتوافق على تقاسم السلطة، وتشكيل حكومة مشتركة.
عُقدت ثلاث جولات بين قادة المجاهدين، شارك فيها برهان الدين رباني، وقلب الدين حكمتيار، وعبد العلي مزاري، وممثلون آخرون. ثم جلس رباني وحكمتيار ومزاري وعبد رب الرسول سياف، وأطراف القتال الأخرى، إلى طاولة التفاوض في القصر الملكي بجلال آباد.
وفي الوقت نفسه، وبطلب من الحاج قدير، خرج طلاب جامعة ننغرهار في "طوق بشري" حول القصر، مطالبين القادة بإنهاء القتال. وبعد أيام بلا نتيجة، غادر عبد رب الرسول سياف إلى كابل بحجة أن طرفاً مهماً في القتال هو أحمد شاه مسعود ويجب إشراكه في المفاوضات. واحتجّ برهان الدين رباني بمرض في الأذن، رغم إصرار الحاج قدير على أن الدكتور إسحاق خاورين يعالجه في جلال آباد، لكنه غادر المدينة أيضاً. وبعد سبعة أيام، خرجت بعض التفاهمات القصيرة، غير أن انسحاب أطراف القتال من المباحثات دلّ على أنها قد تبقى في حدود "الضجيج الإعلامي".
وبعد هذه المفاوضات عاد أسامة بن لادن من السودان إلى أفغانستان، واستقر مع رفاقه وعائلته في "لونا لیوه" قرب جلال آباد.
مفاوضات "ماهيبر" الأولى
عقب فشل مفاوضات جلال آباد، التأمت عام 1993 مفاوضات "ماهيبر" بين برهان الدين رباني، وأحمد شاه مسعود، وقلب الدين حكمتيار، وعبد الرشيد دوستم. وخرجت بنتيجة نسبية: منح معسكر قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء إضافة إلى عدد من الوزارات، على أن يتجه إلى كابل لبدء مهامه رئيساً للوزراء.
نُصّ في القرار على أن يدخل الحزب الإسلامي إلى كابل بعد نزع السلاح. لكن حكمتيار بقي في "تشهار آسياب"، وسمّى عبد الصبور فريد رئيساً للوزراء. أدى فريد اليمين وبدأ عمله. غير أن الاتفاق الأول لـ"ماهيبر" انهار بعد 21 يوماً. وبعد فترة قصيرة، توجّه فريد في زيارة رسمية إلى جلال آباد، ثم إلى باكستان، فمنع من العودة. سقط الاتفاق بسبب شراكة قوة غير متوازنة، وضغط خارجي، وفقدان الثقة. وفي عام 1994 أعلنت طالبان لأول مرة ظهورها في قندهار.
مفاوضات ميدان وردك
في عام 1995، وبعد سقوط غزني، دخلت طالبان بسهولة إلى ولاية ميدان وردك. وكانت معظم هجماتها مُوجَّهة نحو مقاتلي الحزب الإسلامي، مما دفع وزير دفاع حكومة رباني أحمد شاه مسعود إلى بدء مفاوضات مع طالبان في ميدان وردك لفتح جبهة مشتركة.
تركزت المفاوضات على تقاسم السلطة ونمط الحكم. غير أن طالبان طالبت عملياً بتسليم كل شيء، فلم تُسفِر عن نتيجة. وفي تلك الأثناء، توجّه زعيم حزب الوحدة الإسلامية، عبد العلي مزاري، جنوب كابل للتفاوض مع طالبان، فقُتل قرب غزني. واتضح لاحقاً أن طالبان ليست معنية بأي مفاوضات، فتُرك المجال لجولة جديدة بين الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي.
اتفاق "ماهيبر" الثاني
بعد استيلاء طالبان على قندهار، قال برهان الدين رباني في مقابلة مع الصحافي عطاء محمد قسمت، في إذاعة وتلفزيون ننغرهار الوطنية إن "طالبان حمائم سلام، وقد نهضوا ضد أمراء الحرب، وسنصل إلى تفاهم معهم". غير أن طالبان، وبعد ثلاثة أسابيع، حين بلغوا هرات، شنّوا هجمات على قوات الجمعية الإسلامية بقيادة إسماعيل خان. وصار الحزب والجمعية معاً في نظر طالبان خصمين.
أدّت هجمات طالبان على الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية إلى جلوس الطرفين مجدداً عام 1996، فانطلقت الجولة الثانية من مفاوضات "ماهيبر". واتُّفق من جديد على أن يتولى قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء، وعبد الهادي أرغنديوال وزارة المالية، ووحيد الله سباوون وزارة الدفاع، والمهندس قطب الدين هلال وزارة الداخلية.
بعد يومين من اتفاق "ماهيبر 2"، أدى حكمتيار اليمين في كابل برفقة رفاقه، لكن طالبان دخلت العاصمة بعد مدة وجيزة، فتوقف تنفيذ الاتفاق. وكان التأخير سبباً في تعثره، فلو نُفّذ "ماهيبر 1" لربما لم يبلغ الطرفان الأزمة اللاحقة.
الوجهة تعود إلى إسلام آباد
من 1996 حتى 1998 لم تُعقد مفاوضات سلام في أفغانستان. وفي عام 1998، بذل بيل ريتشاردسون، ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، جهود وساطة، وشجّع طالبان على حضور محادثات السلام.
زار ريتشاردسون في أبريل 1998 كابل وإسلام آباد. وأجرى لقاءات منفصلة مع طالبان وخصومهم ومسؤولين في المنطقة. وتمحور الحديث حول إنهاء الحرب الأهلية، والاتفاق على هدنة، وبدء عملية سياسية للسلام.
أكّد ريتشاردسون أنه إذا أرادت طالبان شرعية دولية، ودعماً خارجياً، ونفاذاً إلى المساعدات، فعليها الجلوس إلى طاولة الحوار. وللمرة الأولى، وتحت ضغطه، اقتنع قادة طالبان بالجلوس إلى المفاوضات. ترأس وكيل أحمد متوكل وفد طالبان، وترأس يونس قانوني وفد "الجبهة المتحدة" -التي تشكّلت من الأحزاب الجهادية-، وانطلقت المفاوضات في إسلام آباد.
لعبت باكستان دوراً مهماً في تسهيل هذه الزيارة والمساعدة في إقناع طالبان. ورغم إطلاق الوعود ببدء المحادثات، فإن انعدام الثقة وعدم تنفيذ التعهدات أبقيا الحرب مشتعلة.
كانت هذه المفاوضات خبراً مهماً في الإعلام، لكنها ظلّت حتى عام 2000 مجرد شعارات.
عشق آباد تستضيف المحادثات
بعد محادثات إسلام آباد، عُقدت سنة 2000 في عاصمة تركمانستان عشق آباد مفاوضات بين رئيس الاستخبارات الباكستانية السابق نصير الله بابر وفريق أحمد شاه مسعود. وتعهد بابر، باسم طالبان، بجولة ثانية في عشق آباد، وبالفعل انعقدت في ديسمبر من العام نفسه بين الطرفين.
لم تُسفر هذه المفاوضات إلا عن بيان صحافي، واستمرت الحرب حتى تدخل المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة. كانت مفاوضات نشأت بضغط أميركي–باكستاني، وانتهت إلى لا شيء.
يتكرر "اتفاق جنيف" في هيئة "اتفاق الدوحة"
وُقِّع "اتفاق الدوحة" بين طالبان والولايات المتحدة في 29 فبراير 2020 في قطر. كان حصيلة مسار بدأته ألمانيا عام 2009 عبر استخباراتها في ميونيخ. وفي الوقت نفسه عُقدت لقاءات متناثرة بين الحكومة الأفغانية وجماعات مسلحة في المالديف والسعودية، من دون نتائج تُذكر.
منذ عام 2001، وبدعم قوات دولية تقودها الولايات المتحدة، خاضت الجمهورية الأفغانية حرباً مع طالبان. وهاجمت الولايات المتحدة أفغانستان بذريعة القضاء على "القاعدة"، فأسقطت نظام طالبان وشكّلت حكومة جديدة. لكن طالبان واصلوا القتال ضد الحكومة والقوات الدولية على مدى عشرين عاماً.
هذه المرة، تلقّت طالبان دعماً غير مباشر من باكستان وإيران وروسيا والصين، ما حافظ على سخونة الحرب في أفغانستان.
أبرز بنود "اتفاق الدوحة":
تعهّد الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها من أفغانستان بحلول 31 أغسطس 2021.
تعهد طالبان بعدم الاحتفاظ بعلاقات مع تنظيم "القاعدة" وسائر التنظيمات الإرهابية.
إجراء محادثات سلام بين الحكومة الأفغانية وطالبان.
الإفراج عن أسرى طالبان وشطب أسماء قادتهم من القوائم السوداء.
ورغم توقيع الاتفاق على أنه طريق إلى السلام، فإن تراجع المساعدات الدولية، وشدة الحرب، وخروج شركات الإسناد العسكري، أضعفت الدولة. ومع تقليص الولايات المتحدة دعمها للجمهورية، خرج المتعاقدون العسكريون، وسقط سلاح الجو، وتفكك الجيش الوطني، فدخلت طالبان كابل في 15 أغسطس 2021، وسقطت حكومة الدكتور محمد أشرف غني.
شهدت أفغانستان خلال العقود الأربعة الأخيرة 12 مساراً تفاوضياً كبيراً وصغيراً. لكنها جميعاً فشلت، ولعوامل فشلها تقارب واضح وملموس. فجميع الاتفاقات أُبرمت تحت ضغط أو وساطة قوى خارجية (الولايات المتحدة، باكستان، إيران، روسيا، السعودية، الأمم المتحدة وغيرها)، لا بإرادة أفغانية خالصة. وكانت كلها محاولات لتسويات على السلطة، ولم تكن الأجندة الأساسية سلاماً يلبّي حاجات الناس وحقوقهم ويضع الضحايا -أي الشعب- في الصدارة.
في كل اتفاق طُرحت هدَن مؤقتة وتقاسم للسلطة وتشكيل حكومات مشتركة، لكن أياً منها لم يُنفَّذ. نظر كل طرف إلى الآخر بوصفه "ندّاً"، ولم يكن هناك أساس للثقة. كانت الوعود على طاولة الحوار كثيرة، فيما تواصلت الحرب على الأرض.
عوامل فشل الاتفاقات والمفاوضات
السعي إلى السلطة: كان قادة كل الأطراف يسعون إلى احتكار الحكم. كانت المفاوضات منصات لتقاسم النفوذ لا لتأسيس سلام مجتمعي.
الأجندات الخارجية: وُقّعت الاتفاقات بطلب دول أخرى ومن دون ضمانات تنفيذ. ولذلك لم تتوقف الحرب أثناء التفاوض إلا نادراً (باستثناء هدنة الأيام الثلاثة في عهد الرئيس أشرف غني).
انعدام الثقة: لم يُبدِ القادة احتراماً متبادلاً، وحين أُديت الأيمان، بقيت الأقوال والتعهدات بلا قيمة عملية، لأن الاتفاقات افتقرت إلى آليات تنفيذ.
عدم الاستقرار: الحرب والاقتصاد الهشّ والتمردات ووقف المساعدات شكّلت دائماً عوائق أمام الاتفاقات وأضعفت إمكان توفير ضمانات قوية.
تغييب الشعب: ظلّت محادثات السلام بين القادة حصراً، ولم تُمنَح إرادة الشعب -وهو الضحية الأولى للحرب- حق المشاركة في أي مسار.
أُصيبَت جميع اتفاقات السلام في أفغانستان -من جنيف إلى الدوحة- بالمشكلة نفسها: انعدام الثقة بين الأفغان، وضغوط الخارج، والسعي إلى احتكار السلطة. لذا بقيت التفاهمات ناقصة واستمرت الحرب.
صيغ اتفاقا جنيف والدوحة لانسحاب القوات الأجنبية، لكنهما لم يقدّما حلولاً مستدامة لسلام أفغانستان واستقرارها. ومهّدا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لسقوط حكومات، وأدخلا البلاد في أزمة جديدة.
الخلاصة الأساسية لتقييم الاتفاقين أن انسحاب القوات الأجنبية كان ينبغي أن يُقرَن بضمانات دولية، وتدرّجٍ سلمي، واستقرار سياسي، وتوافق وطني واسع. إن غياب هذه العناصر أعاد أفغانستان بعد عام 2021 إلى سلطة جماعة لم تُنجز "تكامل السلام"، ولم تُوفِّر الأمن -لا سيما حقوق الإنسان والأمن النفسي- ولا العيش السلمي، ولا حرية الفكر والنشاط السياسي والتعبير، ولا حواراً مجتمعياً يضمن التعايش. وهذه كلها عناصر للسلام والأمن، ومن دونها لا يكتمل المسار، وتبقى البلاد في كل لحظة مهددة بالانزلاق من جديد إلى ماضي الصراعات المرير.