عاد باغرام إلى صلب العلاقة بين طالبان والولايات المتحدة، إذ تسعى واشنطن إلى استخدامه لمواجهة "داعش خراسان" وممارسة الضغط على الصين. هل سنشهد تعاونًا بين طالبان والولايات المتحدة بشأن هذه القاعدة؟ وما هي السيناريوهات المحتملة؟
عادت قاعدة باغرام الجوية، التي كانت على مدار عقدين رمزاً للوجود العسكري الأميركي في أفغانستان، عادت مجدداً إلى دائرة الاهتمام. تقع هذه القاعدة شمال العاصمة كابل، عند تقاطع جغرافي يربط بين إيران، وباكستان، وآسيا الوسطى، والصين، ما يجعلها من أكثر المواقع الاستراتيجية قيمة في المنطقة. وتحتوي باغرام على مدرجي طيران طويلين، وبنية تحتية لوجستية متقدمة، وقدرة على استقبال طائرات ضخمة، ما جعلها قلب العمليات العسكرية الأميركية خلال سنوات الحرب في أفغانستان.
لكن أهمية باغرام لم تعد تقتصر على تجهيزاتها وموقعها، بل أصبحت تحمل دلالة سياسية ورمزية ثقيلة. فبالنسبة لطالبان، تمثل هذه القاعدة نهاية "الاحتلال"، وتحولت بعد انسحاب القوات الأجنبية عام 2021 إلى ساحة لعروض القوة خلال العديد من مناسبات الحركة. ولذلك، فإن أي نقاش حول عودة أميركية إلى باغرام يشكّل تحدياً وجودياً لطالبان، يُمكن تفسيره كتنازل أو مساس بسردية "الانتصار".
أما من وجهة نظر واشنطن، فإن أهمية باغرام تتجاوز طالبان وأفغانستان نفسها. فقرب القاعدة من الحدود الصينية يُعد مكسباً جيوسياسياً بارزاً. ومع ذلك، يشير خبراء أمنيون إلى أن أي عودة أميركية فعلية إلى باغرام تتطلب وجوداً بشرياً واسعاً ونشر منظومات دفاعية، وهو ما سيكون عملياً أشبه بـ"احتلال جديد"، ما يجعل تحقيقه أمراً بالغ الصعوبة.
الحسابات الأميركية: مكافحة الإرهاب، الصين، والداخل السياسي
تسعى الولايات المتحدة، فيما يبدو، لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية من خلال عودتها المحتملة إلى باغرام. الأول: تعزيز القدرة على مواجهة تهديد "داعش خراسان".
الثاني: الاستفادة من الموقع الجغرافي القريب من الصين، وهو ما تراه واشنطن مكسباً بينما تعتبره بكين تهديداً مباشراً.
الثالث: اعتبارات داخلية، إذ إن العودة -حتى وإن كانت محدودة- إلى باغرام قد تُقدّم كخطوة لاستعادة الهيبة الأميركية بعد الانسحاب المكلف من أفغانستان، رغم ما قد تثيره من انتقادات.
الحقوق والدبلوماسية: اتفاق الدوحة ومعضلة الاعتراف
نصّ اتفاق الدوحة الذي وُقّع عام 2020 على الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من أفغانستان. وبالتالي، فإن أي عودة إلى البلاد -حتى لو اقتصرت على قاعدة عسكرية- تتطلب إما اتفاقاً جديداً، أو تفسيراً مختلفاً للاتفاق القائم، وهو أمر معقد من الناحية القانونية، ويتطلب ثمناً سياسياً كبيراً في ظل عدم الاعتراف الدولي بحركة طالبان كحكومة شرعية.
في واشنطن، من المستبعد تمرير اتفاق أمني رسمي مع طالبان دون مراعاة قضايا حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، وهو ما سيواجه معارضة داخل الكونغرس. أما طالبان، فتدرك أن توقيع مثل هذا الاتفاق قد يعرّضها لفقدان شرعيتها في الداخل. ولهذا، فإن أي تعاون محتمل سيكون على الأرجح غير رسمي وسري.
السيناريوهات المحتملة:
1- وصول محدود وسري
في هذا السيناريو، ترفض طالبان علناً أي وجود أميركي، لكنها تسمح سراً، وبشكل محدود جداً، بعمليات استطلاع جوي أو بهبوط طارئ لطائرات أميركية. ويمكن تبرير مثل هذه الترتيبات تحت عنوان "تنسيق فني لمكافحة الإرهاب" أو "تعاون ضد داعش خراسان"، دون أن تضطر طالبان للاعتراف بـ"وجود عسكري أجنبي".
ويكمن مكسب طالبان هنا في الحصول على امتيازات اقتصادية أو سياسية غير مباشرة.
٢- غطاء لحماية السفارة
في هذا السيناريو، يُعاد تعريف باغرام كمركز دعم لوجستي لحماية البعثة الدبلوماسية الأميركية في كابل، وقد يُقدم على أنه "مركز دعم طارئ" أو "نقطة إجلاء في حالات الأزمة"، بما يقلّل من الحساسية السياسية لدى طالبان.
ويمكن لطالبان أن تزعم، في هذه الحالة، أنها لم تسمح بعودة القوات الأجنبية، بل وافقت فقط على ترتيبات أمنية دبلوماسية. بالمقابل، تضمن واشنطن سلامة طاقمها وإمكانية التدخل السريع عند الحاجة.
المبعوث الأمريكي السابق زلمای خليلزاد يلتقي بوزير خارجية طالبان
مع ذلك، فإن الخط الفاصل بين "الحماية الدبلوماسية" و"الوجود العسكري" رفيع جداً. وإذا كُشف عن وجود جنود أميركيين -حتى تحت غطاء الحماية- فإن ذلك قد يُعيد خطاب "الاحتلال"، ويضع طالبان تحت ضغط داخلي.
3- عودة رسمية للقوات
يتطلب هذا السيناريو توقيع اتفاق جديد وواضح ينقض نص اتفاق الدوحة ويتجاوز العقبات القانونية والسياسية المتعددة. وسيعني ذلك نشر قوات أميركية، معدات ثقيلة، ومنظومات دفاعية، ما سيُفهم عملياً على أنه "احتلال من جديد".
هذا الخيار مكلف ومحفوف بالمخاطر بالنسبة للولايات المتحدة، وقد يُفسَّر داخلياً بأنه عودة إلى حرب غادرتها بتكاليف باهظة. أما طالبان، فستواجه فقداناً لمشروعيتها الأيديولوجية والسياسية إن قبلت به.
ولهذا، يُعتبر هذا السيناريو شبه مستبعد في المدى القريب، وإن طُرح، فسيُستخدم كورقة ضغط سياسية في المفاوضات، لا كخيار واقعي.
4- الرفض القاطع واستمرار الوضع الراهن
في هذا السيناريو، تُصرّ طالبان على موقفها الثابت الرافض لأي وجود أجنبي، وترفض صراحة منح واشنطن أي شكل من أشكال الوصول إلى باغرام. هذا الموقف ينسجم مع هويتها الأيديولوجية، ويسمح لها بالحفاظ على رواية "نهاية الاحتلال" كأحد أهم إنجازاتها السياسية.
الانعكاسات الإقليمية
ستُقابل الصين أي استخدام أميركي لقاعدة باغرام بحساسية شديدة، بينما تنظر روسيا -التي تعترف بطالبان- إلى ذلك كتهديد لعمقها الاستراتيجي. إيران وباكستان كذلك تعتبران مثل هذا السيناريو مصدر قلق، كل من زاويته. وتشكل هذه المواقف الإقليمية حاجزاً إضافياً أمام أي اتفاق علني محتمل.
في الأيام المقبلة، سيتضح ما إذا كانت جهود آدم بولر وزلماي خليلزاد ستُفضي إلى إعادة فتح مدارج باغرام أمام الطائرات الأميركية، أم أن هذه القاعدة ستبقى تحت سيطرة طالبان، كرمز دائم لنهاية الاحتلال.