كيف تبني حركة طالبان جيشها المستقبلي من خلال قمع الفتيات؟
حذّرت مجلة "ذا ديبلومات" من التداعيات العميقة لحظر تعليم الفتيات في أفغانستان، مؤكدة أن حركة طالبان كرّست على مدى السنوات الأربع الماضية التطرف بشكل منهجي وواسع في البُنى الاجتماعية والتعليمية للبلاد.
وجاء في مقال للناشطة الحقوقية نازيلا جمشيدي، والدبلوماسية الأميركية السابقة آني فورزهايمر، تشديدهما على أن "الفتيات اللواتي كان بإمكانهن متابعة تعليمهن في المرحلة الثانوية، أصبحن اليوم زوجات قاصرات ثم أمهات غير راغبات، يربين أبناءهن في ظل أيديولوجية طالبان".
من المدارس الحكومية إلى المدارس الدينية: صناعة جيل مقاتل وترى المجلة أن طالبان تعمل من خلال استبدال المدارس الحكومية بمدارس دينية، على إعداد جيل من الأطفال، خصوصاً الذكور، لدور مستقبلي يتمثل في القتال والدفاع عن أفكارها المتطرفة، ففي حين يُمنع تعليم الفتيات بعد سن الثانية عشرة، تتوسع المدارس الجهادية التابعة لطالبان بسرعة لافتة. ووفقاً لبيانات وزارة التعليم في طالبان، فإنه منذ عام 2021 تم تأسيس أكثر من 22 ألف مدرسة دينية في أفغانستان، مقابل إنشاء 269 مدرسة نظامية فقط، أي بمعدل 85 مدرسة دينية مقابل كل مدرسة عادية، وهو رقم يثير القلق.
قمع النساء... تهديد للأمن العالمي وتتعامل بعض الدول مع قضايا الأمن وحقوق الإنسان في أفغانستان كملفين منفصلين. فبالنسبة لقوى مثل الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة، يبدو أن مكافحة الجماعات الإرهابية وتحقيق الاستقرار أهم من حماية حقوق الإنسان.
وانتقدت المجلة الفصل بين الملفين، ووصفته بأنه "وهم خطير"، مؤكدة أن طالبان، عبر قمعها الممنهج للنساء، لا تنتهك حقوقهن فحسب، بل تُعدّ المجتمع بأسره لتقبّل الفكر المتطرف. وحذرت من أن "كل فتاة محرومة من التعليم هي فرصة ضائعة لبناء مستقبل سلمي، وكل فتى ينشأ داخل هذا النظام الأيديولوجي قد يتحول إلى تهديد خطير".
تجاهل الغرب... دعم للتطرف كما انتقد المقال بعض الأصوات في الولايات المتحدة التي ترى في طالبان شريكاً محتملاً لمواجهة تنظيم داعش، مؤكداً أن أي تعامل مع الحركة، حتى لو كان بغرض كبح جماعات أكثر تطرفاً، يمنح شرعية لحكم يبني جيشاً عقائدياً للمستقبل.پ
وشددت المجلة على ضرورة مواصلة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في دعم حقوق النساء والفتيات الأفغانيات والتمسك بعدم الاعتراف بحكومة تمارس الفصل الجندري الممنهج، بدلاً من التقارب مع طالبان. وأكدت المجلة على أن الدفاع عن حقوق المرأة الأفغانية ليس مجرد عمل إنساني، بل هو ركيزة أساسية في استراتيجية الأمن العالمي، إذ إن "القمع المنهجي للنساء في أفغانستان ليس هجوماً على نصف سكان البلاد فحسب، بل هو بيئة خصبة لولادة موجة جديدة من التطرف، ستتجاوز آثارها حدود أفغانستان".
في مايو الماضي، عقد وزراء خارجية الصين وباكستان وطالبان اجتماعاً ثلاثياً في بكين ركّز على التعاون الاقتصادي والأمني الإقليمي، وأسفر عن اتفاق مبدئي لانضمام أفغانستان إلى مشروع (CPEC).
غير أن هذا التوسع قوبل برفض حاد من الهند، التي وصفته بأنه "غير مقبول".
خلال اجتماع ثلاثي عُقد بين وزراء خارجية الصين وباكستان وطالبان في مايو الماضي في بكين، وركّز الاجتماع بشكل أساسي على التعاون الاقتصادي والأمني الإقليمي، ليصل الأطراف الثلاثة إلى اتفاق مبدئي لانضمام أفغانستان إلى الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC).
مع ذلك، قوبل توسيعالممر الاقتصاديإلى الأراضي الأفغانية بمعارضة واضحة من الهند. حيث أعلنت وزارة الخارجية الهندية، في بيان لها، أن توسيع هذا المشروع ليشمل أفغانستان "غير مقبول". وأوضحت نيودلهي أن السبب الرئيسي لمعارضتها هو مرور جزء من الممر عبر المناطق المتنازع عليها في جامو وكشمير، والتي تعتبرها الهند تحت "الاحتلال غير القانوني" من قبل باكستان.
ومن وجهة نظر الهند، فإن مشاركة أي دولة ثالثة في هذا المشروع تُعد بمثابة إقرار ضمني بسيادة باكستان على كشمير، وهو ما يُعد خطاً أحمر بالنسبة للدبلوماسية الهندية.
سوبرامنيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي
ويمتد الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني إلى داخل أفغانستان عبر عدة مسارات، تشمل الطريق الرابط بين بيشاور وكابل، والمسار الممتد من كويته إلى قندهار، بالإضافة إلى الممر الاستراتيجي عبر منطقة واخان.
الأهمية الاستراتيجية لممر واخان
يشكّل ممر واخان، الشريط الضيق الواقع في شمال شرق أفغانستان، نقطة ذات أهمية استراتيجية بالغة، يمكن فهمها من خلال تاريخه الطويل والمضطرب. ففي العصور القديمة، كانت هذه المنطقة جزءاً من طريق الحرير التاريخي، وهو الطريق الذي ربط القوافل التجارية بين الصين وآسيا الوسطى وإيران والهند.
غير أن الموقع الحالي لممر واخان، اكتسب أهميته الجيوسياسية بشكل خاص في سياق التنافس الاستعماري خلال القرن التاسع عشر، وتحديداً أثناء ما يُعرف بـ"اللعبة الكبرى" بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الروسية القيصرية. ففي تلك المرحلة، جرى تصميم هذا الممر كحاجز جيوسياسي يمنع حدوث تماس مباشر بين القوتين الاستعماريتين المتنافستين.
وقد أسفر ذلك عن إنشاء شريط حدودي يبلغ طوله حوالي 350 كيلومتراً، ويتراوح عرضه بين 13 و 65 كيلومتراً، يربط أفغانستان بالصين، ويحول دون الالتقاء الجغرافي المباشر بين روسيا والهند البريطانية آنذاك.
ومنذ ذلك الحين، ظل ممر واخان رسمياً جزءاً من الأراضي الأفغانية، إلا أن موقعه الجغرافي الفريد جعله دوماً محل اهتمام القوى الإقليمية والدولية على حد سواء.
أهمية ممر واخان بالنسبة إلى الصين وباكستان
مع طرح مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ولا سيما مشروع الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC)، عاد ممر واخان إلى صدارة الاهتمام الاستراتيجي في المنطقة. وقد استثمرت الصين، في إطار المشروع، أكثر من 60 مليار دولار في باكستان حتى الآن، وهو رقم يعكس الأهمية الكبيرة التي توليها بكين لهذا المسار من حيث الوصول إلى المياه المفتوحة، وأسواق الشرق الأوسط وأوروبا، إلى جانب تعزيز نفوذها الاقتصادي في آسيا الوسطى.
من وجهة نظر صينية، يتمتع ممر واخان بدور متعدد الأبعاد؛ إذ يمكنه ربط منطقة شينجيانغ بأفغانستان والدول الواقعة في آسيا الوسطى مباشرة، مما يوفر لبكين طريقاً أقل تكلفة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي. كما يُعدّ واخان أحد المحاور الرئيسة في مشروع "طريق الحرير الرقمي" الصيني، ويُنتظر أن يلعب دوراً محورياً في نقل الألياف البصرية وتعزيز الاتصال الرقمي الإقليمي.
غير أن ارتباط واخان بالممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب؛ فبكين تضع في الحسبان اعتبارات أمنية واضحة. ومن أبرز المخاوف الصينية وجود مقاتلين من الإيغور التابعين لـ"حركة تركستان الشرقية الإسلامية" في أفغانستان، وهي جماعة تطالب بانفصال إقليم شينجيانغ ذي الأغلبية المسلمة عن الصين. ويُعدّ وجود هذه الجماعة في الحدود الغربية تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وفي هذا السياق، فإن الصين لا تتابع تطوير البنية التحتية في ممر واخان إلا في ظل توفر ترتيبات أمنية صارمة تكفل احتواء التهديدات المتطرفة. وقد حذّر بعض المحللين الصينيين من أن واخان قد يتحوّل إلى ممر لتهريب المسلحين الإيغور إلى الداخل الصيني.
إضافةً إلى الاعتبارات الأمنية، يتمتع ممر واخان بأهمية استراتيجية بالنسبة إلى الصين من حيث الوصول إلى الموارد الطبيعية في أفغانستان. وبما أن بكين تسعى لتأمين المواد الخام الضرورية لصناعاتها المتقدمة، لا سيما في مجالات التكنولوجيا الخضراء، فهي تنظر باهتمام بالغ إلى الثروات النادرة في أفغانستان، ومن أبرزها النحاس والليثيوم. وقد وعدت الصين بضخ استثمارات تبلغ 10 مليارات دولار في مناجم الليثيوم، في حين تنشط شركات صينية بالفعل في منجم النحاس "مس عينك"، في مؤشر على الأهمية الاستراتيجية لهذه الموارد في المنافسة العالمية على التكنولوجيا، خاصة في صناعة السيارات الكهربائية.
على المستوى الإقليمي، تنظر باكستان إلى ممر واخان كفرصة لتعزيز ارتباطها المباشر بآسيا الوسطى. إذ يمكن لهذا الممر أن يربط مناطق باكستانية مهمّشة مثل شترال بشبكات التجارة الإقليمية، كما يسهم في تقليص اعتماد إسلام آباد على الممرات التقليدية غير المستقرة. وفي هذا الإطار، يجري العمل على مشروع إنشاء طريق سريع يربط بين تشترال وواخان، وإقامة المنطقة الاقتصادية في شترال (CEZ)، ما يعكس توجهاً باكستانياً واضحاً للاستفادة من البنية التحتية الجديدة.
وفي السياق نفسه، أبدت طاجيكستان، بوصفها حلقة أساسية في هذا الممر العابر، دعمها لتوسيع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني نحو آسيا الوسطى. وقد أكد الطرفان، خلال زيارة رئيس وزراء باكستان إلى دوشنبه في أواخر مايو 2025، على تعزيز التعاون الاقتصادي من خلال هذا الممر. وترى طاجيكستان في المشروع فرصة مزدوجة: لجذب الاستثمارات الصينية من جهة، وللاتصال بأسواق جنوب آسيا والمياه الدافئة من جهة أخرى.
موقف طالبان: الدخول في لعبة الصين وباكستان
منذ عودتها إلى السلطة، تسعى حركة طالبان إلى إعادة تعريف موقع أفغانستان ضمن النظام الإقليمي الناشئ. وقد عُقدت اجتماعات إقليمية مهمة لتنفيذ مشاريع استراتيجية كبرى في المنطقة. ويُعدّ ممر واخان، بوصفه النقطة الوحيدة التي تربط أفغانستان مباشرة بالصين، ذا أهمية خاصة في الاستراتيجية الإقليمية لطالبان، إذ لا تعتبره مجرد ممر جغرافي، بل أداة لتعزيز مشاركتها في التفاعلات الجيوسياسية الإقليمية.
في الثاني من سبتمبر العام الماضي، قام السفير الصيني في كابل، برفقة وزير إعادة الإعمار والتنمية الريفية في حكومة طالبان، بزيارة إلى نقطة "الصفر" الحدودية لمتابعة سير العمل في ممر واخان، الذي يتم تمويله بدعم مالي صيني. وخلال الزيارة، صرّح السفير بأن واخان يمكن أن يتحول إلى أحد أهم الممرات التجارية في المنطقة، شريطة معالجة الهواجس الأمنية القائمة.
زيارة السفير الصيني لمناجم النحاس بولاية لوغر
وفي ظل ما تعانيه أفغانستان تحت حكم طالبان من عقوبات مالية ومصرفية دولية قاسية، إلى جانب انتشار الفقر وضعف البنى التحتية، تسعى الحركة إلى فتح المجال أمام الاستثمارات الإقليمية، مستفيدة من انفتاحها المتزايد على دول كبرى مثل الصين وروسيا، بهدف جذب رؤوس الأموال إلى مشاريع البنية التحتية وقطاع استخراج الثروات الطبيعية.
الهند: على هامش الاتصال... في صلب القلق
لا تقتصر معارضة الهند الصريحة لانضمام أفغانستان إلى الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني (CPEC) على المسألة القانونية المتعلقة بكشمير فحسب. فمن منظور جيوسياسي، تخشى نيودلهي أن يُفضي انضمام أفغانستان إلى هذا المشروع إلى تعديل ميزان القوى الإقليمي لصالح المحور الصيني–الباكستاني، بما يُهدد النفوذ التقليدي للهند في أفغانستان، ويُهمّش مبادراتها طويلة الأمد الهادفة إلى الوصول المستقل إلى آسيا الوسطى.
على مدار العقدين الماضيين، استثمرت الهند بشكل واسع في أفغانستان ومشاريع "النقل العابر" فيها، لتعزيز حضورها الاقتصادي والجيوسياسي. من أبرز هذه المحاولات: المشاركة في تطوير ميناء تشابهار الإيراني، وإطلاق ممر زاهدان–زرنج، وهي مسارات صُممت لتجاوز الأراضي الباكستانية وربط الهند بأفغانستان ومن ثم بآسيا الوسطى عبر إيران.
في عام 2009، افتتح الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزي، ووزير الخارجية الهندي برانا موخرجي، طريق ديلارام–زرنج، بطول 220 كيلومتراً وبتمويل قُدّر بنحو 140 مليون دولار من المساعدات التنموية الهندية. ويربط هذا الطريق أفغانستان بالموانئ الإيرانية الكبرى، بما في ذلك تشابهار وبندر عباس. وقد اعتبرت باكستان، منذ البداية، هذا المشروع تهديداً استراتيجياً، وعرّضته لهجمات قاتلة من قبل حركة طالبان.
لكن، عودة العقوبات الأميركية على مشروع تشابهار، وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط، إلى جانب التوسع التدريجي لنفوذ الصين في أفغانستان بوصفها شريكاً استراتيجياً لباكستان، قد أثار مخاوف متزايدة في نيودلهي. ويرى محللون هنود أن الهند بدأت تفقد موقعها الإقليمي، وأن مكاسبها من عقدين من الاستثمارات في أفغانستان، والتنافس الاستراتيجي للحصول على نفوذ في آسيا الوسطى باتت مهددة بشكل حقيقي.
ميناء تشابهار
إن تحقيق ربط ممر واخان بمشروعالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني،لا يهدد فقط الممرات البديلة التي أنشأتها الهند، بل يمهّد أيضاً الطريق أمام الصين لتوسيع نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي نحو غرب آسيا؛ وهو ما قد يعمّق عزلة الهند إقليمياً ويُضعف من فعالية مبادراتها البنية التحتية في جنوب ووسط آسيا.
ومن هنا، ينبغي فهم ردود فعل الهند الحادة ضمن إطار سياسة احتواء أوسع تهدف إلى الحد من نفوذ الصين وباكستان في محيط أفغانستان وآسيا الوسطى. فبالنسبة لنيودلهي، يُعدّالممر الاقتصاديوربطه بممر واخان أداة استراتيجية لتهميش المصالح الجيوسياسية الهندية. وفي هذا السياق، ترى بعض الدول الغربية أيضاً أن تمدد الصين باتجاه المحيط الهندي يشكل تهديداً لمعادلة التوازن الإقليمي.
وفي ظل هذا الوضع المعقد، يُطرح تساؤل محوري: هل ستتمكن الهند من التنسيق مع واشنطن لرفع العقوبات عن مشروع تشابهار؟ وهل تستطيع صياغة شراكة استراتيجية أوسع مع روسيا ودول آسيا الوسطى لإحياء هذا الممر الحيوي؟
على الضفة الأخرى، لا يزال مستقبل ممر واخان، بوصفه أحد الطرق الرئيسة لتوسيع مشروع الممر الاقتصادي، يكتنفه كثير من الغموض. فغياب البنية التحتية الملائمة، واستمرار التوترات الأمنية في إقليمي بلوشستان وخيبر بختونخوا –والتي تتهم إسلام آباد نيودلهي بالوقوف وراء الاضطرابات فيهما– بالإضافة إلى تصاعد المنافسة الاستراتيجية بين القوى الإقليمية، تشكل كلها تحديات بارزة أمام تنفيذ هذا المشروع.
ولا شك أن انضمام أفغانستان إلىالممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني عبر ممر واخان يفتح فصلاً جديداً من التنافس الجيوسياسي في المنطقة؛ وهو تنافس يتجاوز أبعاده الاقتصادية، ليشمل جوانب سياسية وأمنية بالغة التعقيد.
وفي هذا السياق المضطرب، يبرز سؤال جوهري: هل ستتمكن طالبان من إيجاد توازن استراتيجي بين القوى المتنافسة؟ وهل ستنجح في تحويل دور أفغانستان من "ساحة صراع" إلى "جسر للتواصل الإقليمي"؟.
يوافق السابع والعشرون من شهر يوليو كل عام، اليوم الوطني للعَلَم في أفغانستان، وهو العلم المعروف بألوانه الثلاثة، الأخضر والأحمر والأسود، وهو العلم الذي لم يعد له وجود اليوم في أفغانستان، بل إن رفعه يُعتبر جريمة في قانون طالبان.
منذ سيطرة طالبان على أفغانستان عام ٢٠٢١، منعت رفع العلم الأفغاني المعروف، واستبدلته بعلمها الأبيض، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي في أفغانستان اليوم، دعوات مجددة لرفض علم طالبان، ويرون بأنه لا يُمثّلهم، كون طالبان أقصت كل ما كان مرتبطاً بتاريخ أفغانستان.
كانت الحكومة الأفغانية السابقة تحتفل بهذا اليوم، وتُرفع الأعلام ذات الألوان الثلاثة في الشوارع، ويحتفل بها الشعب، حيث يقال بأن هذا العلم كان رمزاً للوحدة والقوة في فترة الملك "يما" أحد ملوك أفغانستان التاريخيين. منذ ثلاثة أعوام، في مثل هذا اليوم من كل عام، تشهد مواقع التواصل الاجتماعي مناقشات واسعة حول علم أفغانستان وعلم طالبان، حيث كتب أحدهم إنه يحتفل بهذا اليوم وبالعلم الأفغاني، لأن علم طالبان "لا يمكن أن يمثّل أفغانستان في أي مكان أو زمان". ويقول بعض سكان كابل لقناة "أفغانستان إنترناشيونال": إن طالبان لا تسمح بتنظيم احتفالات أو فعاليات في هذا اليوم، وأن من يحتفل به أو يرفعه يتعرض للعقاب.
أما في الوقت الحالي، فإن جميع الجهات والمباني الحكومية في أفغانستان، لا يُرفع فوقها إلا علم طالبان الأبيض، حيث يُمنع منعاً باتاً رفع علم أفغانستان التاريخي ثلاثي الألوان في الأماكن العامة أو الرسمية، وحتى أن حيازة ذلك العلم أصبحت جريمة في قانون طالبان. في الوقت نفسه ألغت طالبان الرموز والشعارات الوطنية التي عرفها الشعب الأفغاني منذ أجيال، وأحدثت رموزاً وشعارات خاصة بها.
وقبل أيام من حلول اليوم الوطني للعلم الأفغاني، حذرت طالبان لاعبي الكريكت في ولاية بكتيا شرق أفغانستان من ارتداء ملابس تحمل "شعار وعلم جمهورية أفغانستان الإسلامية". وشهدت السنوات الماضية حوادث تمثّلت في تعذيب طالبان لمواطنين رفعوا العلم الأفغاني، حيث قامت بتصوير بعض الشباب في ولاية خوست وحلقت رؤوسهم بعد رفعهم الأعلام الأفغانية ذات الألوان الثلاثة، وكان بعضهم ممن احتفل بيوم العلم على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكان العلم الأفغاني بألوانه الثلاثة يمثل رمزاً وطنياً لكافة الحكومات المتعاقبة في أفغانستان منذ أكثر من ١٠٠ عام، بدءاً من الملكية وحتى الجمهورية، ولم يتم إنزال العلم إلا خلال فترة حكومتين فقط. كانت الأولى عندما غيّرت "حكومة المجاهدين" المشكّلة من الأحزاب الأفغانية العلم خلال الحرب الأهلية في التسعينيات، أما الثانية فكانت بعد سيطرة طالبان على البلاد في مرتين، حيث كانت الأولى بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٠١، بينما الفترة الثانية بعد عودتها إلى السلطة عام ٢٠٢١ وحتى الآن.
لم يكن إعلان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان استعداده لزيارة أفغانستان و«فتح صفحة جديدة» في العلاقات مع نظام طالبان مفاجئاً بالنسبة لكثير من المراقبين المتابعين لتطورات المشهد الإقليمي.
فإيران، التي لطالما اتسم موقفها من طالبان بالحذر والانتقاد، باتت في الآونة الأخيرة تمدّ يد التعاون إلى حكومة تختلف معها جوهرياً في الرؤى والتوجهات، بل وشهدت معها في الماضي مواجهات متوترة. في السابق، كانت علاقة طهران بطالبان تُبنى في الأساس على اعتبارات أمنية وواقع الجوار الجغرافي المفروض، واقتصرت على حدود التبادل التجاري البسيط، وتبادل الرسائل بين الحين والآخر، فضلاً عن انتقادات رسمية لسياسات الحركة، خاصة ما يتعلق بإقصاء الطاجيك والهزارة من معادلة الحكم. إلا أن المؤشرات الحالية تدل على أن إيران بصدد تبني مقاربة جديدة، قائمة لا على الأيديولوجيا، بل على الواقعية السياسية وحسابات المصلحة الوطنية.
لكن لماذا الآن؟ ما الذي دفع إيران إلى تغيير قواعد اللعبة؟ الإجابة تكمن في التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، وفي الضغوط المتصاعدة على النظام الإيراني داخلياً وخارجياً. في يوليو 2025، أقدمت روسيا، كأول قوة كبرى، على الاعتراف رسمياً بحكم طالبان، رغم الخلفية المتشددة للحركة وصلاتها السابقة بالتنظيمات المتطرفة. وقد منح هذا القرار طالبان دفعة معنوية وسياسية قوية، ورسّخ الحضور الروسي في آسيا الوسطى والجنوبية، وهي المنطقة التي انسحبت منها الولايات المتحدة قبل أربع سنوات. من منظور إيراني، اعتُبر التحرك الروسي بمثابة "إشارة انطلاق". ومع التقارب المتزايد بين طهران وموسكو ضمن ما يعرف بمحور مواجهة الغرب، لم يكن لإيران أن تتخلف عن شريكتها الإستراتيجية.
وعلى الجانب الآخر، تعرضت إيران في العامين الماضيين لسلسلة من الضربات القاسية على يد إسرائيل، تمثّلت في غارات جوية على مواقعها في سوريا والعراق، واغتيالات استهدفت كبار قادة الحرس الثوري، فضلًا عن تآكل نفوذ ما يُعرف بـ"محور المقاومة" من لبنان إلى اليمن.
وفي الوقت ذاته، يتسارع قطار التطبيع العربي مع إسرائيل، حيث تدرس عدة دول عربية توسيع هذه العلاقات. وتجد إيران نفسها محاصَرة من كل جانب: جيوسياسياً، واقتصادياً، وحتى على صعيد الشرعية الدولية.
هنا تبرز أفغانستان تحت حكم طالبان كعامل جديد في معادلة المصالح الإيرانية. تشكل الحدود الطويلة مع أفغانستان هاجساً أمنياً دائماً لطهران، لكنها تحوّلت في ظل العقوبات الغربية إلى منفذ اقتصادي غير رسمي. التجارة البسيطة، وتهريب الوقود، وتبادل العملات، جميعها عناصر تساعد إيران في تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية.
وعلى المستوى الإستراتيجي، تراهن طهران على تطوير ميناء "تشابهار" بالتعاون مع الهند، ليكون منافساً لميناء غوادر الباكستاني وممراً بديلاً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية. وفي حال تعاون طالبان، يمكن لإيران أن تُنشئ ممراً برياً يربط الخليج بآسيا الوسطى دون الحاجة إلى المرور عبر الأراضي الباكستانية، وهو ما يتطلب علاقات مستقرة مع كابل. في الوقت نفسه، تراقب طهران بقلق تزايد نفوذ خصومها السنّة –كالسعودية وتركيا وقطر وباكستان– في الداخل الأفغاني، من خلال الاستثمار في التعليم الديني، والإعلام، والتجارة. ولا ترغب إيران في رؤية طالبان تنزلق بالكامل إلى فلك هذه القوى المنافسة.
لكن ربما يكون التحول الأهم داخلياً. فبعد سنوات من التدخلات المكلفة في ساحات مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، بات واضحاً أن طهران تُعيد النظر في أولوياتها. "تصدير الثورة" لم يعد الهدف الأول. اليوم، الأولوية هي لبقاء النظام، وكسر الحصار الاقتصادي، واستعادة زمام المبادرة إقليمياً. ضمن هذا الإطار، يمكن لطالبان أن تتحول –رغم خلافات العقيدة والماضي الدموي– إلى شريك ظرفي لا بدّ منه. وبالطبع، العلاقة ليست من طرف واحد. فطالبان أيضاً تسعى بشكل محموم إلى نيل الاعتراف الدولي. الغرب لا يزال يرفض منحها الشرعية بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وغياب التمثيل السياسي الحقيقي، وتهميش الأقليات. والدول العربية تتعامل معها بحذر. لذا ترى طالبان في كل من إيران وروسيا والصين وتركيا بديلاً ممكناً لنظام عالمي لا يُلزمها بقيم الديمقراطية الليبرالية. وفي حال تحققت زيارة الرئيس الإيراني إلى كابل، فستُعتبر انتصاراً سياسياً كبيراً لطالبان، ودليلاً على اختراق دبلوماسي مهم. غير أن طهران لن تقدم على هذه الخطوة من دون مقابل. فهي ستطالب بتغيير في سلوك طالبان تجاه الشيعة، وضمان أمن الحدود، وتقاسم عادل لمياه نهر هلمند، وتسهيل التعاون الاقتصادي والتجاري.
وفي الخلاصة، فإن انفتاح إيران على طالبان لا يُمكن قراءته بوصفه خطوة تكتيكية فقط، بل كجزء من إعادة تموضع أوسع داخل خريطة التحالفات الإقليمية. مع تراجع الدور الأميركي، وصعود عالم متعدد الأقطاب، تسعى قوى مثل إيران وروسيا والصين وتركيا إلى تشكيل توازنات جديدة قائمة على المصالح لا على الشعارات الأيديولوجية. وفي هذا السياق، ليس مستبعدًا أن تتحول الخصومات القديمة إلى شراكات واقعية إذا اقتضت المصلحة. هل ستكسب إيران هذا الرهان؟ الجواب لا يزال معلّقاً. فالثقة مفقودة بين الطرفين، والتباينات العقائدية قائمة. لكن المؤكد هو أن طهران لم تعد في موقع يسمح لها بفرض الشروط. فهي محاصَرة إقليمياً، ومثقلة بأعباء اقتصادية، ومُستنزفة استراتيجياً، وتجد نفسها مضطرة للقبول بقواعد لعبة جديدة. وفي هذه اللعبة، لم تعد طالبان مجرّد خصم، بل قد تكون فرصة –مريرة لكن ضرورية– لالتقاط الأنفاس.