طالب وزير خارجية طالبان، أمير خان متقي، يوم الخميس خلال اجتماع مع دبلوماسيين أجانب في كابل، كلاً من طاجيكستان وأوزبكستان بإعادة الطائرات العسكرية الأفغانية التي نُقلت إلى أراضيهما عقب سقوط الحكومة السابقة.
وأشار متقي إلى أنّ هذه الطائرات كان لها "دور فعّال" في عمليات البحث والإنقاذ خلال الزلزال الأخير في ولاية كنر.
هذا الطلب يأتي فيما أعرب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مراراً عن استيائه من بقاء معدات الجيش الأفغاني السابق والأسلحة الأميركية بيد طالبان واستخدامها في عروض عسكرية بقاعدة باغرام.
تصريحات متقي تكشف أنّ أوزبكستان وطاجيكستان لم تستجيبا حتى الآن لمطالب طالبان المتكررة بإعادة الطائرات المروحية والعسكرية، في حين لم يصدر أي موقف رسمي من حكومتي البلدين. وكانت مصادر قد كشفت لـ"أفغانستان إنترناشيونال" أنّ أوزبكستان قررت بالفعل تسليم بعض الطائرات لطالبان، لكن لم يُعرف ما إذا كان القرار جاء بضوء أخضر من واشنطن أم لا.
خلال السنوات الأربع الماضية، سعت طالبان لإعادة 57 طائرة ومروحية صغيرة تابعة للجيش الأفغاني السابق، كانت قد نُقلت إلى أوزبكستان وطاجيكستان، لكن من دون جدوى. ففي 15 أغسطس 2021، وبعد انهيار الحكومة وفرار الرئيس الأسبق أشرف غني، قاد طيارو القوات الجوية الأفغانية الطائرات والمروحيات إلى الدولتين الجارتين في الشمال لتفادي وقوعها في أيدي طالبان.
بحسب مسؤولين سابقين، نُقلت أيضاً ثلاث طائرات من مزار شريف إلى دول الجوار، سقطت إحداها في يومها الأول بينما هبطت البقية رغم اعتراض حكومتي طاجيكستان وأوزبكستان. وأكد مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأفغانية السابقة أنّ الطيارين الذين لعبوا دوراً محورياً في قصف طالبان كانوا مهددين بالتصفية، لذلك أُجبروا على مغادرة البلاد لحماية حياتهم.
ويقول هؤلاء المسؤولون إنّ هذه المعدات العسكرية، بما فيها مروحيات "بلاك هوك" الأميركية، لم يكن ينبغي أن تقع بيد طالبان. وقد أقلعت تلك الطائرات ساعات بعد مغادرة غني لكابل بواسطة ثلاث مروحيات روسية من طراز Mi-17.
أنواع الطائرات المنقولة
من بين 57 طائرة ومروحية، هناك طائرات PC-12 و C-208 و AC-20، إضافة إلى مروحيات "بلاك هوك" الأميركية ومروحيات Mi-17 الروسية التي كانت قد اشتراها الجيش الأفغاني السابق بتمويل أميركي. كما تضم القائمة طائرة هجومية صغيرة من طراز A-29 سوبر توكانو. وباحتساب ثلاث طائرات نقلت غني إلى أوزبكستان وواحدة سقطت، يبلغ العدد الإجمالي 57.
القوة الجوية الأفغانية السابقة كانت تملك 229 طائرة عسكرية ونقل، معظمها تم شراؤه بتمويل أميركي. لكن عدداً كبيراً منها تعطّل أو دُمّر خلال الحرب الطويلة ضد طالبان، أو وقع في أيدي الحركة، أو نُقل إلى الخارج.
خطوة أحادية؟
لم يتضح بعد ما إذا كانت أوزبكستان ستسلّم طالبان الطائرات الروسية أم الأميركية، ولا ما إذا كانت ستتشاور مع واشنطن في ذلك. وبالنظر إلى توتر العلاقات الأميركية مع طالبان، واحتجاز الأخيرة لمواطنين أميركيين، فضلاً عن علاقاتها المتنامية مع خصوم واشنطن الإقليميين، فمن غير المرجّح أن توافق الولايات المتحدة على هذه الخطوة.
مسؤول عسكري أفغاني سابق حذّر من أنّ "تسليم المروحيات لطالبان قد يثير غضب ترامب". وكان الأخير قد وجّه انتقادات حادة لإدارة بايدن بسبب ترك الأسلحة الأميركية في أفغانستان، مطالباً باستعادتها من طالبان.
في العام الماضي، زار قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) أوزبكستان وبحث مسألة الطائرات مع حكومة طشقند. وأفادت تقارير بأنّ بعض مروحيات "بلاك هوك" نُقلت بالفعل إلى الولايات المتحدة. كما وعد القائد العسكري الأميركي بدعم أوزبكستان في مكافحة الإرهاب وقدم 60 مليون دولار لتعزيز سلاحها الجوي. مسؤولون أميركيون أكدوا أنّهم يعارضون بشدة تسليم هذه الطائرات لطالبان.
ورغم ذلك، تواصل طالبان الضغط على أوزبكستان لتسليم الطائرات، فيما يقال إنّ طشقند تسعى للحصول على ضمانات أمنية من الحركة مقابل هذه الخطوة.
تخشى أوزبكستان من نشاط "الحركة الإسلامية الأوزبكية" داخل الأراضي الأفغانية، حيث تفيد تقارير بأنّ عناصرها يعملون بحرية في شمال أفغانستان وبعضهم التحق بمؤسسات طالبان المحلية. لكنّ التنسيق بين هذه الحركة وتنظيم "داعش-خراسان" يزيد من قلق طشقند.
مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأفغانية أشار إلى أنّ أوزبكستان قد تسلّم طالبان مروحيات Mi-17 الروسية، لكن اتخاذ قرار أحادي من دون التشاور مع واشنطن قد تكون له تبعات خطيرة. وكانت طالبان قد طلبت في وقت سابق من روسيا المساعدة في صيانة الطائرات العسكرية.
بيع الأسلحة في السوق السوداء
الولايات المتحدة ودول أخرى مثل باكستان والهند تخشى من تسرب الأسلحة الأفغانية السابقة إلى السوق السوداء. بالفعل، ظهرت تقارير عن بيع أسلحة أميركية من أفغانستان في أسواق تمتد من كشمير حتى اليمن. رئيس جهاز استخبارات طالبان نفسه أقرّ مؤخراً ببيع أسلحة في السوق السوداء.
يحذّر خبراء من أنّ طالبان تفتقر إلى الخبرة الفنية للحفاظ على هذه الطائرات. مسؤولون سابقون ذكروا أنّ الحركة أهدرت بالفعل مئات المركبات العسكرية الثمينة بسبب سوء الاستخدام والحوادث. وفي حادثة أخيرة، تحطمت مروحية عسكرية في ولاية غور، بعد سلسلة حوادث مشابهة في كابل وولايات أخرى.
أحد المسؤولين قال إنّ طالبان قد تستطيع استخدام الطائرات الروسية لفترة، لكن استمرار تشغيل الطائرات الأميركية سيكون مستحيلاً، إذ إنّ معظم عناصر الحركة لا يدركون أنّ الطائرات تحتاج إلى صيانة دورية بعد عدد محدد من ساعات الطيران.
وقد أدى ذلك بالفعل إلى سلسلة من الحوادث الدامية، إذ يتم إجبار الطيارين المتبقين على تنفيذ طلعات تحت تهديد الاعتقال في حال رفضهم.
استخدام سياسي وعسكري
يصرّ متقي على أنّ هذه الطائرات لن تُستخدم في قمع الشعب، بل في مواجهة الكوارث الطبيعية، إلا أنّ معارضي طالبان يرون أنّها ستُستخدم لتعزيز سلطة الحركة وقمع معارضيها.
مسؤول سابق قال: "طالبان ستستغل هذه المروحيات في قمع المعارضة، تهريب المخدرات، وربما التدريب على هجمات شبيهة بـ11 سبتمبر". في ظل علاقات طالبان الوثيقة مع تنظيم القاعدة، تُعدّ هذه التحذيرات بمثابة جرس إنذار خاصة للولايات المتحدة.
تقارير أخرى أشارت إلى أنّ طالبان تستعمل هذه المروحيات كوسيلة نقل لمسؤوليها، بل وصل الأمر إلى استخدامها في حفلات زفاف ورحلات ترفيهية.
في وقت ما تزال فيه مسألة الطائرات عالقة، فإن أي خطوة أحادية من أوزبكستان قد تُغضب الولايات المتحدة وتعرّض التعاون الأمني بين البلدين للخطر. وكانت السفارة الأميركية في طشقند قد أكدت أنّ 46 طائرة ومروحية من الجيش الأفغاني السابق ستبقى بحوزة أوزبكستان وفق اتفاق جديد.
لكن طالما أنّ طالبان تفتقر إلى القدرة التقنية والكوادر المؤهلة، فإنّ أي طائرات قد تعود إليها ستصبح في النهاية مجرد خردة، ما لم تحصل على دعم فني مباشر من دول مثل روسيا.
كانت أفغانستان خلال الثلاثة عقود الماضية مليئة بالأزمات والتقلبات، لذلك الحاجة لإجراء تحليل تاريخي عميق ضروري، بدءاً من الحقبة السوداء في التسعينيات، مروراً بقيام الجمهورية وانهيارها، وصولاً إلى الاستبداد "الطالباني" الحالي.
الحقبة السوداء في التسعينيات وبداية الجمهورية
قبل الخوض في نقاش حول العقدين اللذين عاشتهما الجمهورية، وأسباب سقوطها، والواقع الحالي، وآفاق المستقبل، من الضروري التوقف قليلًا عند المرحلة التي سبقت قيامها.
لقد كانت هذه الحقبة، التي صادفت اقتراب أفغانستان من إكمال قرن من الزمن على التجربة الإدارية الحديثة، من أحلك وأخجل الفترات في تاريخ البلاد وأكثرها تخلفاً. فمن عام 1992 إلى عام 2001، وهي فترة قاربت العشر سنوات، نصفها تحت حكم الأحزاب الجهادية ونصفها الآخر تحت سيطرة طالبان الاستبدادية المتطرفة، عاشت البلاد في فوضى تامة، وانعدام للحكم، وحروب أهلية، وتدمير كامل للجيش والشرطة والقوات الجوية، وإزالة للمعالم الثقافية والتاريخية، وانهيار لقطاع التعليم والفنون. كان الأفغان محرومين من كل مقومات الدولة الأساسية.
وإذا أخذنا وضع كابل كمثال قبل أحداث سبتمبر 2001، نجد أن هذه المدينة، التي كانت رمزاً للمقاومة والانتصار في الحرب الأفغانية البريطانية الأولى، لم يتجاوز عدد سكانها ما بين 500 إلى 700 ألف نسمة. فغالبية سكانها نزحوا إلى بلدان أخرى بسبب الصراعات الداخلية بين حزب الجمعية الإسلامية، بقيادة برهان الدين رباني، مجلس الشورى الشمالي، بزعامة أحمد شاه مسعود، والحزب الإسلامي، الذي يقوده قلب الدين حكمتيار، إضافة إلى الكتلة الإسلامية الوطنية، التي يتزعمها عبد الرشيد دوستم، وحزب الوحدة الإسلامية، الذي يتزعمه عبد العلي مزاري. أما الباقون فكانوا من الذين لم يمتلكوا القدرة على مغادرة البلاد.
الوضع الاقتصادي في المدينة كان متدهوراً للغاية، حيث كانت معظم العائلات ترزح تحت وطأة الفقر المدقع وسوء التغذية. ومن الناحية النفسية، كان الناس تحت حكم طالبان يتعرضون لتعذيب جسدي ونفسي مستمر، حيث كان المئات يتعرضون في الأسواق والمساجد والشوارع للإهانة والضرب وأحيانًا للاعتقال بشكل يومي. أما وسائل الترفيه والثقافة التقليدية، مثل الموسيقى المحلية والأغاني ومعظم الألعاب، فقد أُزيلت تماماً.
على الصعيد السياسي، فقدت أفغانستان هويتها في الإقليم والعالم. كان الهاتف الوحيد في قصر "غلكاني" الرئاسي يحمل رمز الاتصال الباكستاني (0092)، في حين اختفى الرمز الأفغاني (0093) تماماً. وكان ذلك دليلاً على أن الإدارة السياسية العليا في البلاد كانت خاضعة للتأثير، وربما الرقابة الاستخباراتية، للجارة باكستان.
وبشكل عام، من عام 1992 حتى 2001، كان الأفغان محرومون من كل مقومات الدولة المنظمة. لقد أُنهك الشعب جسدياً ونفسياً إلى حد أن الأمل في الحياة قد انعدم. كان سكان كابل والولايات هياكل بشرية خاوية بلا روح. حتى النخب الوطنية والمثقفون الأفغان في الخارج، سواء في أطر سياسية أو ثقافية، لم يجدوا أي سبيل عملي للتغيير، واضطر كثيرون منهم إلى التعايش مع فوضى المجاهدين وطالبان.
كانت هناك جهود فردية محدودة خارج البلاد لإحياء هوية أفغانستان وكرامتها عبر وسائل الإعلام، لكنها لم تكن كافية أو فعالة. وبعد أحداث سبتمبر 2001 وسقوط نظام طالبان، سنحت للأفغان فرصة لالتقاط أنفاسهم، واحتفل الناس في المدن والقرى بانتهاء حقبة الفصائل الجهادية والاستبداد الطالباني بطريقتهم الخاصة.
سقوط نظام طالبان وبداية فصل سياسي جديد
في عام 2001، حصلت الولايات المتحدة على إجماع دولي شبه كامل للإطاحة بنظام طالبان. حتى الخصوم التقليديون لواشنطن مثل روسيا والصين وإيران وقفوا إلى جانب هذه الجهود. وأيّد مجلس الأمن الدولي بقراره رقم 1378 (13 نوفمبر 2001) إنشاء حكومة انتقالية، ومنع إعادة تأسيس "الإمارة"، ودعم دور الأمم المتحدة في صياغة هيكل سياسي جديد.
وتبع ذلك القرار رقم 1383 (6 ديسمبر 2001) الذي اعترف رسمياً بـ"اتفاق بون" وأكد تنسيق المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار.
أما القرار رقم 1386 الصادر في 20 ديسمبر من العام نفسه، فقد مهد الطريق لتشكيل "القوة الدولية للمساعدة الأمنية" (ISAF) لتتولى مهام الأمن في كابل وضواحيها دعماً للإدارة الانتقالية الأفغانية.
أثر الإجماع الدولي
بعد عقد كامل من انعدام الدولة، والفوضى، وفقدان الهوية، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، جذب أفغانستان فجأة اهتماماً عالمياً غير مسبوق. فقد هيأت قرارات الأمم المتحدة الحاسمة، والتوافق بين الشرق والغرب، الأجواء لاقتناع معظم المثقفين والوطنيين والموظفين الحكوميين السابقين، والتكنوقراط، والصحفيين بأن أفغانستان لن تُترك وحيدة بعد الآن، وأنها ستتجه تدريجياً نحو الاستقرار السياسي. ولهذا انخرطت الغالبية الساحقة من الأفغان في البنية الرسمية وغير الرسمية للدولة الجمهورية الجديدة.
لكن الحلفاء الأساسيين للائتلاف الذي تقوده الولايات المتحدة كانوا في الواقع قادة الفصائل الجهادية وأمراء الحرب، الذين تم تثبيت مواقعهم في مفاصل الدولة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ولإضفاء مظهر مدني على النظام، تم إشراك عدد من التكنوقراط والمثقفين وأعضاء الأحزاب غير الجهادية في الإدارة.
بداية الجمهورية
في السنوات الأولى، شكّل انطلاق حقبة الجمهورية نهاية واضحة لسنوات التسعينيات السوداء. اعتبر الكثير من الأفغان انعقاد "اللويا جيرغا" للدستور عام 2004 خطوة سياسية مهمة وأملاً كبيراً للمستقبل. وتبع ذلك تقدم في مجال التشريع وسن القوانين.
على الصعيد الدولي، استعادت أفغانستان هويتها، وتم إقرار الدستور، وأعيد اعتماد العلم والنشيد الوطني، واستعاد ممثلو البلاد مواقعهم في المنظمات الدولية. ومع إعادة تفعيل رمز الاتصال الدولي، تحقق تقدم سريع في قطاع الاتصالات، وانطلقت الرحلات الجوية الدولية، وانخفضت معدلات وفيات الأمهات والأطفال، وارتفعت نسب التلقيح، وشهد قطاع التعليم تطورًا ملحوظًا.
كما أُعيد تأسيس الجيش الوطني والشرطة الوطنية والقوات الجوية– وهي المؤسسات الثلاث التي دمّرها المجاهدون عام 1992. وكانت هذه كلها مؤشرات لبداية جيدة، لكنها كانت قصيرة الأمد.
لكن، لماذا لم تستمر هذه الإنجازات؟ لماذا ثبت أنها هشة؟ ولماذا لم تترسخ مع مرور السنوات؟ أهم الأسباب كان التعمد في منع قيام عملية سياسية شعبية حقيقية. وسبب آخر رئيسي هو غياب الالتزام منذ اليوم الأول بتحقيق سلام واستقرار فعليين.
عرقلة العملية السياسية الشعبية – العوامل الداخلية
منذ البداية وُضع أساس النظام الجديد على نحوٍ معوج. فتركيبة الحكومة المؤقتة، التي تشكلت تحت رئاسة حامد كرزي، كانت منذ اليوم الأول ذات خلفية جهادية–عسكرية. شارك فيها جميع مرتكبي أحداث السنوات السوداء من عقد التسعينيات والمتهمين بارتكاب جرائم حرب. وقد صُمِّم النظام السياسي الجديد بحيث كان واضحاً منذ البداية أن السلطة لن تُنقل أبداً إلى الشعب.
هيكل الدولة على الورق كان قائماً على مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، لكن في الواقع العملي كانت السلطة بيد نفس الأشخاص المسؤولين عن جرائم ودمار العقد السابق. هؤلاء لم يكونوا ملتزمين بالقانون أو بالقيم، بل كانوا يتسابقون في انتهاك القانون.
في عام 2018، وأثناء حديثي مع الدكتور عبد الله حول قضية داخلية في الحكومة، قال لي صراحة: "دكتور فضلي.. كلامك صحيح من حيث الدستور والقوانين، وحديثك في إطار القانون صحيح، لكن هذه هي أفغانستان".
كان عدد من التكنوقراط لهم دور تجميلي فقط لإظهار الجمهورية بمظهر لائق. وكان بعض الوطنيين بسذاجة يعتقدون أنه مع مرور الوقت سيتم ترسيخ سيادة القانون، لكن هذا الاعتقاد كان خطأً كبيراً. وهناك مجموعة أخرى من التكنوقراط والليبراليين دافعت بوعي عن هذا الترتيب لأنه كان يتماشى مع شكل الهيمنة الأمريكية. بالنسبة لهم، كانت مراعاة القيم أمراً ثانوياً، وكانوا يصفون أنفسهم بـ"الواقعيين" و"البراغماتيين" لتبرير موقفهم.
كما أُحضر الملك السابق ظاهر شاه إلى كابل لخلق مظهر جمالي وأمل زائف، ولإعطاء رسالة للشعب مفادها أن أفغانستان تعود إلى ديمقراطية الستينيات.
في مثل هذا النظام البيئي، توفرت بيئة لنمو القوة الشخصية. فكل شخص، سواء داخل الحكومة أو خارجها، كان يسعى لتعزيز قوته الاقتصادية أو السياسية أو حتى العسكرية، عبر الوسائل المشروعة أو غير المشروعة. أصبح النظام بأكمله على كل المستويات فردياً، حتى قضية السيادة الوطنية بقيت فردية، ولم ينتقل امتلاك الشؤون السياسية والأمنية والاقتصادية إلى الدولة، لأن الدولة كانت عبارة عن مجموعة من الأفراد لكل منهم أجنداته الخاصة.
كان هناك عائق آخر مهم أمام العملية السياسية الشعبية وهي القيود القانونية والبيروقراطية. فمع أن أكبر إنجاز في عهد الجمهورية كان التشريع، إلا أن قانون الأحزاب بقي ناقصاً ومليئاً بالمشكلات حتى نهاية العشرين عاماً. كانت كثير من مواده تتعارض مع المبادئ الأساسية للديمقراطية وتشكل عقبة أمام نمو الأحزاب الجديدة. وقد نشأت هذه المشكلة تحت تأثير التنظيمات الجهادية المسلحة، كما لعب بعض التكنوقراط والأجانب والمؤسسات دوراً سلبياً فيها.
كان الوضع مشابهاً لما حدث في ظل دستور 1964، الذي أعلن قانونياً حرية تشكيل الأحزاب، لكن حتى نهاية النظام الملكي لم يُصادق على قانون الأحزاب. وتكرر السيناريو نفسه في ظل دستور 2004: حيث نص الدستور على حرية تشكيل الأحزاب، لكن طوال عشرين عاماW لم يُستكمل قانون الأحزاب.
وبحسب الدستور، كان يجب إجراء الانتخابات، لكن قانون الانتخابات لم يُصَغ حتى النهاية، لأن ذلك كان سيهدد مصالح التنظيمات الجهادية، وبعض التكنوقراط الأفراد، والليبراليين، والعاملين في المنظمات غير الحكومية، وحتى الولايات المتحدة وحلفائها. ورغم أن محاولات لحل هذه المشكلات الجوهرية بُذلت في عهد الرئيس حامد كرزي والرئيس أشرف غني، إلا أن جميع هذه المحاولات كانت فردية، وفي نظام بيئي معادٍ للجمهورية الشعبية، من الطبيعي أن تفشل.
كما أن عوامل أخرى كثيرة، وبشكل تدريجي، خلقت فراغاً في الشرعية والسيادة والملكية الوطنية في كل زاوية من البلاد: مقاومة أمراء الحرب للعدالة الانتقالية، إضعاف النيابة العامة والمحاكم من خلال الهياكل الموازية، تقوية أمراء الحرب المحليين يوماً بعد يوم، انتشار الفساد الإداري، والمحسوبية، والواسطة، وانعدام العدالة في تنفيذ المشاريع التنموية في الولايات… كل هذه كانت أسباباً فرعية وتنفيذية موجودة بدرجة ما في أي حكومة. أما السبب الداخلي الرئيسي فكان عرقلة العملية السياسية الشعبية، وعدم تولي المسؤولية السياسية، وفي النهاية الهزيمة السياسية.
العوامل الخارجية
على الرغم من أنني أعتقد أن الأجانب يتدخلون دائمًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأن التركيز الأساسي ينبغي أن ينصبّ على ضعفنا الداخلي، فإن العوامل الخارجية بعد عام 2001 كانت مختلفة بوضوح عن التدخلات المماثلة في بلدان أخرى حول العالم.
واجه الأجانب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أفغانستان مدمرة وغير مستقرة ومنهكة جرّاء عقد التسعينات الأسود. جاء تدخلهم على أساس قرارات الأمم المتحدة، لكن نفوذهم العملي كان أكبر بعدة مرات من مستوى السيادة الوطنية. كانت نفقاتهم السنوية تفوق الميزانية الوطنية الأفغانية بنحو مئة ضعف، وكان عدد موظفيهم المدنيين يعادل ثلاثة أضعاف الكادر المدني الأفغاني، وامتلكوا قوة برية وجوية واستخباراتية لا يمكن مقارنتها على الإطلاق بقوة الدولة والمجتمع الأفغانيين.
منذ اليوم الأول، طُبّقت سياسة تمكين القوى المحلية، وأمراء الحرب، والمهربين، ومغتصبي الأراضي، وقادة الجهاد، تحت قيادة الولايات المتحدة. وقد دافع وزير الدفاع الأميركي في إدارة بوش، دونالد رامسفيلد، علناً عن هذه السياسة، حيث نصّت عقيدته على ضرورة تمكين أمراء الحرب المحليين من أجل "استقرار" أفغانستان.
كان لهذه السياسة أثران متوازيان:
تقوية أمراء الحرب، مما أدى إلى إضعاف الحكومة المركزية.
ترسيخ نظام المنظمات غير الحكومية، الذي من خلاله أُنشئت مئات المؤسسات غير الحكومية، وكان هذا النظام لا يدعم أمراء الحرب سراً فحسب، بل شكّل هيكلاً بديلاً ومنافساً للسلطة المركزية.
لم يُقر قانون المنظمات غير الحكومية بسبب الضغط الخارجي حتى سقوط النظام، حتى لا يكون للدولة تأثير عليه. ومن خلال هذا النظام، منع الأجانب تنفيذ المشاريع الوطنية والبنيوية الكبرى، وفضّلوا تمويل المشاريع المؤقتة وذات الأثر المحدود.
إحدى الأمثلة الواضحة كانت في المجال الانتخابي، حيث أنفقت الأمم المتحدة خلال عشرين عاماً ما يقارب مليار دولار، لكنها لم تُنشئ نظاماً انتخابياً يضمن التحقق الدقيق من هوية الناخبين أو فرز الأصوات بشفافية.
وفي عام 2018، عندما طرحَت الحكومة الأفغانية حلّ هذه المشكلة عبر توزيع البطاقات الإلكترونية وأخذ البيانات البيومترية أثناء التصويت، واجهت معارضة شديدة من الأجانب، خصوصاً من ممثلي الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو والأمم المتحدة. حتى أن بعض اللاعبين المحليين البارزين، مثل حامد كرزي وعبد الله عبد الله، عارضوا ذلك. وفي اجتماع مشترك لسفراء الدول في القصر الرئاسي، هددوا الرئيس بأنه إذا تم تنفيذ هذا الخطة، ستحدث اضطرابات واسعة في كابل. وعلى الرغم من هذا الرفض، بدأ توزيع البطاقات، والذي ما زال يُعتبر حتى اليوم أهم إنجاز في حقبة الجمهورية.
من خلال شبكة المنظمات غير الحكومية وسياسة تمكين أمراء الحرب، روّج الأجانب لمصطلح جديد: "الأشخاص المؤثرون وذوو النفوذ". وكان الهدف من وراء ذلك إبقاء الحكومة المركزية دائماً خاضعة لرغبات هؤلاء الأشخاص.
وبنتيجة هذه السياسة، لم تُجرَ انتخابات مجالس المديريات ولا انتخابات البلديات طوال عشرين عاماً، لأن هؤلاء "المؤثرين" كانوا يعارضون التمثيل الشعبي على المستوى المحلي، فيما كان الأجانب يقفون إلى جانبهم.
الأسباب المشتركة الداخلية والخارجية
إن أزمة أفغانستان في العقود الأخيرة لم تكن نتاج المشكلات الداخلية أو التدخلات الخارجية وحدها، بل كانت نتيجة لعوامل مشتركة من الجانبين. وكان أبرزها الاستراتيجية الحربية والسياسات المناهضة للسلام التي نفذتها الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد عام 2001، والتي أيدها ونفذها إلى حد ما شركاؤهم الأفغان.
في 7 أكتوبر 2001، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش عن بدء عملية "الحرية الدائمة"، موضحاً أن هدفها هو "إسقاط نظام طالبان وإضعاف تنظيم القاعدة". وأكد وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، بشكل صريح أنه "يجب أن يُقضى على طالبان بالكامل". أما الحلفاء الجهاديون الأفغان، الذين وصلوا إلى السلطة بدعم أميركي وكانوا مخمورين بالنفوذ، فقد تبنوا موقفاً مؤيداً للحرب. على سبيل المثال، قال حامد كرزي عام 2002 عن طالبان: "إذا كان الملا عمر هناك، فسيتم القبض عليه".
في العام نفسه، قدم الملا عمر عرضاً للاستسلام والسلام، لكن هذا العرض قوبل برفض قاطع من رامسفيلد وزعماء الحرب الأفغان. حينها أعلن حامد كرزي أن السلام مع "طالبان المجرمين" أمر مستحيل. ومنذ تلك اللحظة وحتى عام 2017، فُرضت سياسة تهدف إلى إبقاء الحرب مشتعلة ومنع السلام في أفغانستان. ولتبرير هذه السياسات، استغل الغرب بشكل منهجي وسائل الإعلام التابعة للمنظمات غير الحكومية، والشخصيات الليبرالية، وزعماء الحرب، بل وحتى النزاعات القومية.
في عام 2013، وضعت الحكومة الأفغانية آنذاك شروطاً صعبة لبدء محادثات السلام، جعلت من قدوم السلام أمراً شبه مستحيل على أرض الواقع. وبفعل الاستراتيجية الحربية الأميركية، ارتفع مستوى القصف الوحشي في أفغانستان بعد عام 2002. وحتى ألمانيا، التي لم ترسل جيشها خارج حدودها منذ الحرب العالمية الثانية، أرسلت قوات برية وجوية إلى أفغانستان، ما تسبب في وقوع العديد من الضحايا المدنيين.
خلال هذه الفترة، تم تسليم عدد كبير من الأفغان الأبرياء، بتهمة الانتماء لطالبان، من قبل زعماء الحرب الجهاديين إلى الأميركيين، فامتلأت بهم سجون باغرام وغوانتانامو، وتعرضت حفلات الزفاف للقصف، واختفى آلاف الأشخاص في سجون سرية. وحتى باراك أوباما، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، أرسل خلال تلك السنوات أكثر من 110 آلاف جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان، مما زاد الحرب اشتعالاً.
وفي الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة من جهة تشجع الحكومة والجيش الأفغاني على القتال، ومن جهة أخرى تُبقي على اتصالات دبلوماسية سرية مع طالبان في أوروبا ودول الخليج، دون علم الحكومة الأفغانية بذلك.
وخلاصة القول، فإن السياسات المناهضة للسلام والمرتكزة على العنف، التي تبنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الدوليون وزعماء الحرب الأفغان وشبكة المنظمات غير الحكومية، تضافرت لتمنع نشوء عملية سياسية ديمقراطية حقيقية في أفغانستان، ولتطيل أمد الحرب.
الوضع بعد عام 2018
من خلال تمكين أمراء الحرب، ودعاة المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات الموازية، والحفاظ على ضعف الحكومة المركزية، تمكّن المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها الأفغان، خلال السنوات الست عشرة الأولى، من تعطيل المسار السياسي الشعبي في البلاد. حال هذا الوضع دون إيجاد آليات حقيقية، بملكية أفغانية، لتحقيق التوافق السياسي العام، وظلت التحركات في معظمها فردية.
كانت الولايات المتحدة قد أقامت مسبقاً اتصالات سرية مع حركة طالبان، لكن هذه العلاقات أصبحت علنية في عام 2018. وبسبب التغيرات السريعة في النظام الدولي، بدأت واشنطن منذ ذلك العام تتحدث بشأن القضايا الجوهرية الخاصة بأفغانستان مع طالبان فقط، بينما اقتصرت تعاملاتها مع الحكومة الأفغانية على مسائل هامشية. كما استطاعت إقناع دول إقليمية مهمة، مثل الصين وروسيا وحتى إيران، بأن حكم طالبان يصب في مصلحتها. وفي إطار هذه السياسة، وبمبادرة أمريكية، عُقدت مؤتمرات موسكو وبكين وطهران وطشقند بمشاركة طالبان.
في فبراير 2018، عرضت الحكومة الأفغانية على طالبان التفاوض دون أي شروط مسبقة، لكن الحركة رفضت ذلك العرض، وقبلت الولايات المتحدة ضمنياً بموقف طالبان، لتبدأ لاحقاً مفاوضات علنية مع الحركة من دون إشراك الحكومة الأفغانية. وكانت الحكومة بحاجة إلى إجماع سياسي واسع لتنفيذ عرضها، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك في مواجهة الموقف الأمريكي. كما تمكنت واشنطن من فصل أمراء الحرب، والسياسيين المرتبطين بالمنظمات غير الحكومية، والناشطين المدنيين –الذين أنشأتهم هي بنفسها– ووسائل الإعلام التي دعمتها، عن الحكومة، وقسّمتهم إلى أجندات فردية وجماعية، حتى أن بعضهم وقف في ردهات فنادق طالبان منتظراً مبايعتها.
هل كان بإمكان الحكومة الأفغانية أن تبذل جهداً أكبر لتحقيق هذا الإجماع؟ نعم، كان ذلك ممكناً، لكن النتيجة كانت ستبقى معدومة، لأن الولايات المتحدة كانت تتمتع بنفوذ وقوة غير مسبوقين، ومن جهة أخرى، لم تكن هناك أي قواعد أو مؤسسات مقبولة للمسار السياسي. النتيجة كانت تهميش الحكومة الأفغانية، بينما كان أمراء الحرب يحلمون في ردهات فنادق الدوحة وموسكو وطهران وإسلام آباد بإسقاط النظام الجمهوري وحجز مكان لهم في "الحكومة الإسلامية" الجديدة.
في 29 فبراير 2020، وبعد "اتفاق الدوحة" سيئ السمعة، مضت الولايات المتحدة في تنفيذ كل شيء مع طالبان –بتفاصيله– استناداً إلى تفاهمات سرية وعلنية، ورسمت الخطوات النهائية لسقوط الحكومة الجمهورية. ولم تكن المفاوضات المباشرة بين الحكومة الأفغانية وطالبان جزءاً من الخطة منذ البداية، ولم تُعقد حتى النهاية؛ فالمفاوضات الحقيقية كانت بين الولايات المتحدة وطالبان فقط.
وفي النهاية، ومع التغيرات العميقة في الساحة الدولية، وسعيها للاستعداد للمنافسة مع القوى الكبرى الأخرى، نجحت الولايات المتحدة في استغلال اتفاق الدوحة لعام 2020 لتغيير شكل وجودها في أفغانستان.
سقوط الحكومة الجمهورية: هل كانت هزيمة سياسية أم عسكرية للأفغان؟
باختصار، يمكن القول إن سقوط الحكومة الجمهورية كان أولاً هزيمة سياسية –هزيمة سياسية للأفغان– كما كان فشلاً سياسياً وعسكرياً للعالم وللولايات المتحدة.
كان جنود القوات الوطنية والدفاعية الأفغانية يقاتلون تحت شعار "الله، الوطن، والواجب"، ضحّوا بأنفسهم، وتمكّنوا منذ عام 2015 من الدفاع عن بلدهم رغم وجود حوالي عشرة آلاف جندي أميركي فقط في أفغانستان. لم يتلقَّوا هزيمة عسكرية؛ أما الهزيمة الفعلية فكانت للطبقة السياسية التي فضّلت السياسة الفردية والليبرالية والحربية و"المنظّمة" على السياسة الشعبية والتنظيمية الحقيقية. وكانت النتيجة أن ملكية القوات الأمنية والدفاعية الوطنية على المستوى الاستراتيجي بقيت غامضة بالكامل.
قبل شهرين فقط من السقوط، غادرت أكثر من 100 شركة أمريكية متعاقدة في اللوجستيات العسكرية –المسؤولة عن إمداد القوات الأفغانية– أفغانستان دون أي خطة واضحة لنقل المسؤوليات إلى الحكومة الأفغانية. وأدى ذلك إلى أزمة لوجستية مفاجئة على مستوى البلاد للقوات الوطنية.
في يونيو 2021، قدم رئيس الأركان الأميركي وقائد "سنتكوم" خطة مستحيلة للحكومة الأفغانية أُطلق عليها اسم "خطة تركيز القوات الأفغانية". وبكلمات بسيطة، كان معناها أنه إذا أرادت الحكومة الأفغانية دعم الولايات المتحدة، فيجب عليها سحب جميع القوات المدنية والعسكرية من جميع المحافظات الـ34. كانت هذه الخطة غير قابلة للتنفيذ من الناحيتين اللوجستية والسياسية.
لم يُسمح بطائرات النقل والمقاتلة التابعة للقوات الجوية الأفغانية، والتي أُرسلت للخارج للفحص الفني، بالعودة من قبل الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، في يوليو 2021، أُبلغ عدد من الضباط الأفغان بأنهم سينتقلون مع عائلاتهم إلى الولايات المتحدة. وكان كل ذلك يحدث بينما وصلت الولايات المتحدة وطالبان إلى التفاصيل النهائية لتسليم السلطة وفق الاتفاقات السرية والعلنية في الدوحة.
باختصار، كان سقوط الدولة الجمهورية هزيمة سياسية لا عسكرية؛ لأن ملكية النظام لم تكن في يد الأفغان.
هل كانت أفغانستان حقاً مستعدة للديمقراطية؟
الديمقراطية الليبرالية المستنسخة من الدول الأجنبية في أفغانستان تُسهم فقط في تعزيز الأفراد ولا تمثل الشعب، ومن البداية كانت مهيأة للفشل. وقد حدث ذلك بالفعل، فشلت ولم تُقبل من المجتمع. الأفغان يريدون ويقبلون سياسة شعبية حقيقية؛ سياسة تعتمد على تمثيل الناس من داخل المجتمع، بحيث يشعر الشعب بمشاركته في القرارات الوطنية من خلال ممثليه.
في أفغانستان، لم يقتصر فشل السياسيين الأفراد على السياسة فحسب، بل فقدوا كل مصداقيتهم السياسية والاجتماعية. الاعتماد على الأفراد لمستقبل البلاد السياسي عمل خاطئ وغير مسؤول. هذا النظام جُرّب لمدة عشرين سنة وفشل.
النضال الأفغاني ضد الاستبداد والديكتاتورية ليس حديثاً. في أوائل القرن العشرين، كان هناك حركة المطالبين بالدستور، وبعد عام 1950 ظهرت حركات أفغانية ضد الاستبداد والدكتاتورية. هذه الحركات لم تكن ممولة من الخارج، وكانت لها جذور شعبية في الولايات والمناطق، وفي النهاية تمكنت من تحويل الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية عام 1964.
في ذلك الوقت، كانت هناك مجلس الشعب ومجلس الشيوخ، وكانت الانتخابات تُدار بميزانية أفغانية وبملكية وإدارة أفغانية. ربما كانت هناك نواقص، لكن العملية كانت تحت سيطرتنا، ومع مرور الوقت كان بالإمكان تحسينها وإصلاحها. إذن، أفغانستان تمتلك تجربة ديمقراطية شعبية من خلال ابتكارها وملكية شعبها، وهي ترغب في استمرارها.
المجلس الكبير هو ظاهرة قديمة لتمثيل الشعب الأفغاني، وقد أدخل الدستور لعام 2004 إصلاحات واسعة لجعله أكثر ديمقراطية. في ثقافتنا، إذا لم يُستشر أفغاني في تخطيط زفافه ولم يُأخذ رأيه بعين الاعتبار، فلن يوافق على الزواج وسيشعر بالاستياء. وعلى المستوى الوطني، الأمر نفسه: يريد الأفغان أن يشاركوا في القرارات الوطنية من خلال ممثليهم، وهذه هي الديمقراطية الحقيقية.
هل تسلّم طالبان السلطة لأنها تفهم نبض المجتمع؟
طالبان ليس لديهم أي صلة حقيقية بأي طبقة من المجتمع، لا في صغرهم ولا في كبرهم، فكيف يمكنهم فهم نبض المجتمع؟ معظم أعضاء طالبان نشأوا بعيدين عن الروابط العاطفية والإنسانية لعائلاتهم وقراهم ومجتمعاتهم. كيف يمكن لشخص تربى في مركز استخبارات ديني أجنبي، بعيداً عن دفء العائلة ومحبتها، أن يفهم ألم الأب، الأم، الأخت أو الأخ؟
إنهم لا يملكون علاقة حقيقية بأي شريحة من المجتمع؛ لا مع المعلمين والعلماء، ولا مع الفلاحين والحرفيين، ولا مع الزعماء القوميين والمسنين. وصول طالبان إلى السلطة نتيجة فشل الطيف السياسي الأفغاني، وغياب الأحزاب السياسية الشعبية، والفراغ السياسي الموجود في المجتمع. تاريخياً، تستخدم القوى الاستعمارية في الدول الفقيرة الجماعات الدينية المتطرفة لقمع ومنع الحركات الشعبية، وطالبان مثال واضح على ذلك.
الاضطهاد الحالي
الحكم الذي مارسته طالبان خلال الأربع سنوات الماضية، من حيث طبيعته، يعكس تماماً فترة التسعينيات السوداء. شكل وطبيعة القمع مشابهة إلى حد كبير لما كان في تلك الحقبة، والفرق الوحيد أن طالبان في المرحلة الحالية يمارسون نفاقهم بشكل صريح وواضح جدًا.
على سبيل المثال، مُنع نصف سكان البلاد ـالنساءـ من التعليم والعمل، وأصبح البلد بأكمله أشبه بسجن كبير؛ في المقابل، النساء الغربيات -اللواتي يأتين كسياحات أو كممثلات استخباراتيات- يحضرن الاجتماعات، يلتقطن الصور ويضعن الزهور على الطرقات. ترسل طالبان رسائل دعائية باللغة الإنجليزية لداعميهم الغربيين حول حقوق النساء، بينما يتعاملون مع النساء الأفغانيات بالعصا والقيد.
تعمل القوى الاستعمارية الأجنبية، لحماية مصالحها والتنافس مع القوى الكبرى الأخرى، على إبقاء الشعب الأفغاني، وخصوصاً النساء، تحت قمع النظام المتطرف لطالبان. في هذه العملية، اقتنعت بعض اللوبيات الأفغانية ببساطة أو بسبب تأثير الدعاية الأمريكية بأن طالبان قد تغيروا، بينما سعى آخرون عمداً لتبييض صورة طالبان عبر الحصول على مشاريع، مع العلم التام أن طالبان لا يغيرون مبادئهم.
لقد ألحق حكم طالبان الاستبدادي خلال السنوات الأربع الماضية أضراراً بالغة بالبلاد والشعب، وستكون آثارها على المدى المتوسط والطويل سبباً لكارثة كبيرة. مثل أساتذتهم السابقين الذين دمروا الركائز الأساسية للهوية الأفغانية في أعوام 1929 و1992 و1996، ألغى طالبان العقد الاجتماعي الوحيد والموثوق بين الشعب والدولة ـ الدستور. كما قاموا بفرض رقابة على كتب التاريخ، وأبادوا الآثار التاريخية التي تعود لما قبل الإسلام، وقضوا على الفنون مثل السينما والموسيقى والرسم.
أهم ركيزة للهوية، وهي التعليم، تعرضت لهجوم متعدد الأوجه من النظام الاستبدادي لطالبان. إغلاق أبواب العمل والتعليم أمام عشرين مليون امرأة وفتاة أفغانية ليس ظلماً فحسب، بل يُعتبر أكبر خيانة، فساد وإبادة فكرية في القرن الحادي والعشرين.
إلى جانب اقتلاع جذور الهوية الأفغانية، يُمارس الحكم في البلاد بطريقة تجعل كبار السن يُهانون يومياً، والطلاب يتعرضون للإساءة، وتتعرض النساء للمضايقات من الرجال غير المحارم في الأسواق، ويُلقى بهن في السجون ثم يُفرج عنهن بكفالة عائلية بلا حياء. وقد سجّلت طالبان مئات الحوادث التي شملت الإساءة الجنسية للنساء والفتيان.
على الرغم من أن طبيعة طالبان وفكرهم كانت واضحة للجميع منذ البداية، إلا أنهم خلال الأربع سنوات الماضية قدموا للشعب تجربة عملية لحكمهم القمعي. والآن، لا تملك طالبان الجرأة الأخلاقية، ولا داعموهم الأجانب أو اللوبيات، لإلقاء اللوم على مشاكل الجمهورية.
يجب أن نتذكر أنه كمواطنين أفغان، تقع على عاتقنا مسؤولية حماية الوطن والشعب من القمع المستمر. لا يمكننا أن نيأس، ويجب أن نقول بصراحة إن اليأس ليس من عاداتنا. يسعى الاستعمار والمتطرفون الدينيون لإحباطنا، لكن علينا أن نحبط آمالهم.
في المستقبل، يجب أن نثق بأنفسنا. يحاول الاستعمار ومن يستفيد منه زرع فكرة في الشعب تقول إن كل شيء ممكن فقط بموافقتهم وإشارتهم. نعم، معظم الأفعال تتم بتوجيه من القوى الاستعمارية وعبر مجموعاتهم العميلة، لكن كل خطوة يقومون بها تمثل لنا مثالاً على فترة الظلام في التسعينيات، أو على القمع والاستبداد خلال الأربع سنوات الماضية.
الدروس المهمة من التجارب السابقة هي أن الحرب ليست سوى لصالح الاستعمار ومجموعاتهم العميلة. الحرب ليست أبداً حلاً. المؤيدون للحرب هم إما جنرالات التسعينيات وأبناؤهم، أو تلك الحروب تتم تحت إدارة أجهزة الاستخبارات والقوى الكبرى الإقليمية، ولا يمتلك الأفغان فيها أي قرار.
نحن، الذين نؤمن بالديمقراطية الشعبية، يجب أن نبتعد تماماً عن الحرب وإراقة الدماء التي تتم بأموال وسيطرة الأجانب. درس آخر مهم من تجربة الجمهورية لمدة عشرين سنة هو الابتعاد عن أي تيار يعيق بناء المؤسسات السياسية الوطنية أو العملية السياسية الشعبية. غالباً ما تكون هذه التيارات منظمات فردية تدعمها دول أجنبية مالياً وسياسياً وتتعاون مع طالبان، حتى أنها تنظم مؤتمرات ممولة حول تعليم وعمل النساء.
العواقب واضحة: كلما حاولت بعض الشخصيات المؤسسية، الكتاب والصحفيون تبرير موقف الاستبداد الحالي عقلياً أو دينياً فيما يخص تعليم وعمل الفتيات، كلما استمر الاستبداد المعادي للتعليم، ويظل نصف سكان بلادنا محرومين من التعليم والأنشطة الاجتماعية. كما يُحرم الرجال أيضاً من حقوقهم الأساسية بسبب الانحطاط المستمر والقمع.
الحل الدائم والواقعي هو إنشاء منظمات سياسية مستقلة على أساس العملية السياسية الشعبية، لا تستلهم فكرياً من الخارج، ولا تتلقى تمويلاً عسكرياً أو اقتصادياً. الخطوة الأولى هي أن تختار هذه المنظمات قادتها عبر آلياتها الداخلية وانتخاباتها لإنشاء بنية حزبية. الخطوة الثانية هي الاتفاق على قواعد اللعب بين المنظمات للتنسيق والتفاعل، بحيث يشارك في العملية السياسية فقط من له سجل نضالي في التنظيمات ويكون عضواً أو قائداً قائماً. الخطوة الثالثة هي إعداد وثيقة تفاهم وطني تحدد مبادئ العمل المشترك وتمهد الطريق لإجماع وطني، شريطة أن يكون العمل أفغانياً وخالياً من النفوذ الخارجي.
هذه العملية طويلة ومرهقة ومليئة بالعقبات، وستواجه ضغوطاً خارجية. الطبقة السياسية الحالية، التي اعتادت على الاعتقاد لسنوات أن أي تغيير يأتي فقط من الخارج، ستقاوم هذا التوجه. لكن التاريخ يظهر أن هذه هي الطريقة الوحيدة الصحيحة والواقعية.
الطرق الأخرى، خاصة الفردية أو المدعومة من الخارج، جُربت ولم توفر ضماناً سياسياً دائماً. لحسن الحظ، بدأت بوادر وعي سياسي تظهر تدريجياً بين الجيل الجديد. الشباب يدركون أن الاستقرار السياسي يتحقق فقط عبر الجهد المستمر والتضحيات المدروسة وإطار التنظيمات السياسية، وليس من خلال المشاريع الأجنبية أو الشخصيات الموسمية أو المؤتمرات الدعائية.
باختصار، تُظهر التجارب الدموية للخمسين سنة الماضية في أفغانستان أن السبب الرئيسي لعدم الاستقرار المستمر هو فراغ العملية السياسية الشعبية. هذا الفراغ لا يمكن سدّه إلا من خلال إنشاء تنظيمات سياسية جدية وناضجة على الصعيد الوطني. التاريخ يفرض أن تنتهي فترة السياسة الشخصية، وحان الوقت لاتخاذ خطوات عملية وأساسية لاستمرارية سياسية وطنية وأصيلة ومؤسسية.
في الذكرى الرابعة لسقوط أفغانستان، يكشف النائب السابق للرئيس الأفغاني أمر الله صالح خفايا انهيار البلاد وخداع الحلفاء، ويفضح لعبة طالبان وما حدث في واشنطن. شهادة نادرة من قلب الحدث عن أيام هزّت أفغانستان.
إن تقديم تحليل واحد ومتفق عليه من غالبية الأطراف حول أسباب وعوامل انهيار نظام جمهورية أفغانستان الإسلامية، أمر صعب للغاية، بل يكاد يكون مستحيلاً. فكل من عاش تحت راية الجمهورية أو كان مستفيداً منها، لديه نظرته الخاصة تجاه الحدث المظلم المتمثل في سقوط الجمهورية وبسط سيطرة الهيكل المرفوض والمنبوذ المسمى طالبان. ينظر كل فرد إلى هذه الحادثة –التي أخرجت أفغانستان مرة أخرى من مسار الحضارة وبناء الدولة– من زاوية انتمائه القومي والسياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي. ولا يمكن تقديم رواية واحدة ومهيمنة عن هذا السقوط. لذلك، فإن هدفي من هذا التحليل ليس توجيه اللوم إلى الآخرين أو إبراز أخطائهم ونقائصهم، بل عرض وجهة نظري، المتأثرة هي الأخرى بالانتماءات السياسية، وبنى السلطة، والعلاقات الإقليمية، والانتماءات القومية واللغوية والمناطقية والتاريخية.
أولاً لحسن الحظ، أصبح الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت متاحاً للجميع، والكثير من الأمور التي سأشير إليها هنا متوفرة بسهولة. النقطة الأولى تتعلق بدور نائب الرئيس في هيكل الجمهورية، وفقاً للدستور. لم تُعرّف صلاحيات نائب الرئيس في الدستور بشكل واضح، وكانت حدود هذه الصلاحيات يحددها الرئيس نفسه. وكانت درجة هذه الصلاحيات مرتبطة بمستوى العلاقة بين الرئيس ونائبه. لكن توقعات الناس مني لم تكن قائمة فقط على الصلاحيات المحدودة أو غير الموجودة، بل كانت تعود إلى جذوري السياسية والقومية والتاريخية، إذ كنت أحد جنود البطل الوطني الشهيد أحمد شاه مسعود، وكان الناس ينتظرون مني أن أدافع عن رؤيته وإرثه السياسي بالكامل. عندما أصبحت نائباً للرئيس، لم يكن معسكر "المقاومة في التسعينيات" تفتّت فحسب، بل إن كل جزء منه كان يفتقر إلى البنية الفعلية. وفي السلطة، كان نفوذ هذا المعسكر –على الأقل– موزعاً بيني وبين الدكتور عبد الله عبد الله. ولا أريد الدخول في مسألة مدى تمثيل كل منا لهذه المصالح أو حمايتها، لأن ذلك سيحرف الهدف الرئيسي من هذا المقال. لذلك، فإن الذين يظنون أن القوات المسلحة كان يمكن أن تعمل وفق أوامري أو كان ينبغي أن تعمل بناءً على طلبي، لا يعرفون روح الدستور ونصه. من الناحية القانونية، لم يكن بإمكاني إصدار أوامر مباشرة لأي جزء من القوات المسلحة، باستثناء دائرة الحماية الشخصية والمقربين مني. وكان على نائب الرئيس أن ينفذ آراءه وطلباته من خلال الهياكل المؤسسية آنذاك، مثل اجتماعات مجلس الأمن برئاسة الرئيس، والاجتماعات الأمنية الخاصة، وجلسات مجلس الوزراء. ونظراً لخلفيتي في مجال الأمن، وخاصة الاستخبارات، كان الرئيس تحت ضغط أميركي لعدم منحي صلاحيات محددة وواسعة في هذا المجال. وقد تم التصريح بذلك صراحة في أول مقابلة مفصلة له بعد السقوط. بعد أن بدأ -المبعوث الأميركي- زلمي خليل زاد في عام 2018 مفاوضات مباشرة مع طالبان متجاوزاً الحكومة الأفغانية، اتخذت موقفاً حاداً وقوياً من خلال تنظيم تجمعات شعبية. كنت أول من أدان في تجمع شعبي في كابيسا مفاوضات خليل زاد، وقلت إن عاقبة هذا العمل ستكون خطيرة للغاية على بقاء النظام وإنجازات المقاومة والجمهورية. هذا الموقف –رغم أنه كان قبل انضمامي إلى الرئيس أشرف غني– جعل السفارة الأميركية تفرض عليّ عزلة خلال أكثر من عامين كنائب للرئيس، وكانت علاقاتنا باردة للغاية. ورغم بعض المحاولات من الجانبين للتفاهم، فإن الفجوة في المواقف كانت كبيرة. كان القائم بأعمال السفارة الأميركية في كابل، ويدعى "ريتشارد"، عقد معي اجتماعاً خاصاً لعدة ساعات بعد أيام قليلة من أدائي اليمين، في مكتبي المؤقت في "كوته باغتشه"، لأن مكتب "صدارت" لم يتم إخلاؤه بعد من المارشال دوستم. حاول ريتشارد أن يقنعني بألا أتحدث ضد السياسة التصالحية للأميركيين إذا أردت مستقبلاً لنفسي. لم نصل إلى نتيجة، بل ازداد يقينه بأنني ضد أي تسوية غير مجدية ومهينة مع طالبان. وفي مرة أخرى، اشتبكت معه لفظياً بشدة في فناء "حرمسرا -القصر الرئاسي-" بعد أحد الاجتماعات، فغادر المكان بعد سماع كلامي القاسي. وكانت السفارة الأميركية تكرر طلبها بألا تكون بيانات اجتماعات الساعة "ست ونصف" ضد طالبان، وألا نثبت أنهم يقفون وراء الاغتيالات والتفجيرات في المدن، لأن خليل زاد اخترع مصطلح "خفض العنف". على سبيل المثال، بعد سقوط الجمهورية، نشرت طالبان قائمة تضم أسماء الانتحاريين الذين شاركوا في الهجمات ضدي، رغم أنهم كانوا ينكرون ذلك في السابق. وكان تفجير "جهارراهی زنبق" من هذا النوع من الجرائم. وكانت أميركا تحاول تبرير اتفاق الدوحة، وكشف جرائم طالبان كان يضر بسردية واشنطن. كان بإمكاني أن أفعل أشياء أكبر لأن لدي الخبرة والقدرة، لكن لم يكن بإمكاني أن آمر القوات مباشرة. وعندما أنظر الآن إلى حدود صلاحياتي آنذاك، لا ألوم أحداً غير نفسي. فإذا كانت صلاحياتي محدودة، كان عليّ أن أعترض في حينه. وربما كنت الشخص الوحيد في تاريخ أفغانستان الذي كان يؤدي صلاة الفجر دائماً في مكتبه. كنت أحاول منع وقوع أفغانستان في الكارثة التي غرقت فيها.
ثانياً طريقة التفاوض مع طالبان. ما كان يُسمّى "الطبقة السياسية" في أفغانستان كان منقسماً بشدة، ولم يكن هناك أي تيار سياسي يدعم بصدق وبقلب واحد الموقف التفاوضي للحكومة. وكلما كان زلمي خليل زاد يدخل كابل، كان يلتقي أولاً بأشخاص متفرقين قبل لقائه بالرئيس، وكان يُظهر هذه اللقاءات في الإعلام ليقول للرئيس: "أنت لست المرجع الوحيد لصناعة السلام تحت راية الجمهورية". أما الذين كانوا يلتقون خليل زاد قبل الرئيس فكانوا يشعرون بأهمية ذاتية، ويعتبرون السخرية من القصر الرئاسي نوعاً من القوة والشرف. كانت هذه الحيلة الشيطانية من خليل زاد لخلق الشقاق والانقسام واضحة تماماً. وكما أن دور الشيطان في إضلال البشر لم يكن يوماً ضعيفاً، فإن عزل الجمهورية كان ركناً أساسياً في الاستراتيجية الأميركية الجديدة. وكما شرحت في تصريحاتي –وهي متاحة على الإنترنت– كنت أعلم أن هذا النهج لن يصل إلى نتيجة، لكن موقفي هذا لم يكن عاماً داخل الجمهورية. أحياناً كان يُنظر إلي كأنني "بوّاب جهنم"، لا أملك سوى الغضب، ولا أجلب سوى النار والعقاب. لكن الحقيقة أنني، بحكم تاريخ عملي وخبرتي، كنت أعلم أن طالبان لم تتغير، بل ازدادت سوءاً. عندما جاءت فرصة السفر إلى الولايات المتحدة –وكان آخر سفر لقيادة الجمهورية إلى هناك– حاولت إقناع الرئيس ألا يصحبني، لأن اسمي لم يكن مدرجاً في القائمة ولم أكن مدعواً رسمياً. لكن الدكتور فضل محمود فضلي، رئيس إدارة الشؤون الرئاسية، أرسل لي رسالة من الرئيس يطلب فيها أن أتجاوز البروتوكولات والرسميات من أجل الوطن وأرافق محمد أشرف غني كأخ. فوافقت. بعد وصولنا إلى واشنطن، أقامت السفارة الأفغانية مأدبة حضرها أكثر من مئة من كبار المسؤولين الأميركيين السابقين، وعدد من المسؤولين الحاليين، إلى جانب جنرالات وسفراء ورؤساء وصحفيين بارزين واللوبيات. تحدث الرئيس بحذر شديد، مبرراً ذلك بأن لدينا في الغد لقاءً مع جو بايدن، وأن أي حديث قاسٍ هنا سيضعه في موقف صعب ويجعل المفاوضات بلا جدوى. بعد حديث الرئيس، وقف الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وقال إن الولايات المتحدة على وشك ارتكاب جريمة في أفغانستان، وإن هذا لا يُغتفر، مشيراً إلى الانسحاب الحتمي للقوات الأميركية والاتفاق السري مع طالبان. وكان هذا أشد تصريح في الجلسة، وتحدث آخرون في السياق نفسه. فقال لي الرئيس: "دع بايدن يسمع هذا منهم، ونحتفظ نحن بكلامنا للغد". كان "توم ويست" –الذي أصبح لاحقاً المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأميركية إلى أفغانستان– حاضراً في الجلسة. وفي اليوم التالي، قبيل لقاء بايدن، لم تُنشر في الصحف الأميركية أي أخبار سلبية عن إدارته، فحُفظت سمعته في ذلك اليوم. في البيت الأبيض، ووفق البروتوكول، انتظرت ساعة تقريباً في قاعة الاستقبال لأن اسمي لم يكن مدرجاً رسمياً. ثم أُدخلت إلى قاعة الاجتماع، ويبدو أن المباحثات الأساسية كانت قد انتهت. نهض بايدن من مكانه وقال: "العمل كنائب أمر صعب، فهو لا يجلب الشكر، وكل الفضل يذهب للرئيس. لقد كنت نائباً وأعرف ما تشعر به". طلب مني بايدن أن أطرح ما لديّ، فقلت بسرعة لضيق الوقت: "أولاً، إذا كان الهدف من اتفاق الدوحة هو السلام، فلماذا ستتوقف منظومتكم اللوجستية والدعم العسكري لقوات الجمهورية في الأول من سبتمبر 2021، دون أي مجال للتمديد؟ هذه العقود كان يجب تمديدها منذ أشهر. ثانياً، إذا خرقت طالبان روح اتفاق الدوحة وهاجمت، فما هي خطتكم الطارئة؟ أم أنكم تخليتم عن الجمهورية وأن الاتفاق هو في الواقع تغيير للنظام؟ ثالثاً، هل أنتم مستعدون ذهنياً لسقوط الجمهورية؟"
كانت الأسئلة قاسية، لكن بايدن أجاب بهدوء بأنها أسئلة منطقية، مضيفاً: "سنواصل دعم الجمهورية، لكن التفاصيل الفنية سيشرحها لكم وزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات المركزية". ثم اجتمعنا بوزير الدفاع لويد أوستن لمدة ساعة ونصف في البنتاغون، وبعده بثلاث ساعات تقريباً مع مدير الـ"CIA" في مقر الوكالة. وتبيّن لاحقاً أن الاثنين كانا مأمورين بخداعنا، إذ لم يتحقق أي وعد أعطي لنا، بل كانوا يصرون حتى اللحظة الأخيرة على أنها ستتحقق. الهدف من هذا الخداع كان منعنا من اتخاذ إجراءات دفاعية مستقلة عن أميركا، حتى لا يُفشل مخطط إدخال طالبان، وتجريد قوات الجمهورية من القدرة والثقة بالنفس.
ثالثاً: الإجراءات التكتيكية المطلوبة كنت من المؤيدين لشراء الألغام المضادة للأفراد والآليات وزرعها بكثافة في طرق طالبان، لأن أفضلية طالبان في كثير من العمليات كانت بفضل الألغام، فيما كان غيابها نقطة ضعف لدينا بسبب توقيع أفغانستان على معاهدة حظر الألغام. كما كنت مؤيداً لشراء الطائرات المسيرة، وكان وزير الخارجية حنيف أتمر يسعى لإقناع الجميع بذلك، ورتب لي لقاءً مع شركة تركية لصناعة المسيرات. لكنني –كنائب للرئيس– لم أكن أستطيع اتخاذ قرار مباشر. كنت مؤيداً لتوزيع السلاح على الناس للمقاومة من بيت إلى بيت، وشارع إلى شارع، لكنني كنت وحيداً في هذا الرأي، إذ كان الآخرون يعتبرون هذه الإجراءات مخالفة "للاتفاقات الكبرى" للوصول إلى السلام. وكان الرئيس أشرف غني يستجيب لمعظم مقترحات الشخصيات المؤثرة، ويوافق كتابياً على مقترحاتي أيضاً. في الأسابيع الأخيرة، كان المال يوزع بأمره من جهاز الأمن الوطني. وكل الشخصيات التي تدّعي الآن أنها كانت مستعدة للمقاومة لكن غني لم يدعمها تكذب، لأن الرئيس لم يرفض أي طلب منهم في تلك الفترة. ومع ذلك، كان بعضهم يتشاور ليلاً مع خليل زاد الذي كان يكرر لهم أن طالبان تغيرت وستتصالح معهم، فلا داعي لإتعاب أنفسكم. بعد أن يئست من شراء الألغام من الخارج بسبب المعارضة الأميركية وحلف الناتو الشديدة، لجأت إلى وسائل غير تقليدية، وحاولت إنشاء ورش لصناعة الألغام. وتجدر الإشارة إلى أن أمين عام الناتو يانس ستولتنبرغ قال للرئيس أشرف غني في اتصال إنجاح عملية السلام يتطلب عدم إعدام مقاتلي طالبان وعدم شراء الألغام. هذا الاتصال ما زال موجوداً على "تويتر". كان الرئيس يحدد العلاقة مع الغرب كأساس، لكنني كنت أعلم منذ وقت طويل أن الغرب يخوننا. قبل سقوط النظام بعشرة أيام فقط، قال لي الرئيس: "إذا استطعت، فعّل مشروع صناعة الألغام الذي اقترحته". ورغم أن هذا ليس من مهام نائب الرئيس، بدأت فوراً بدعوة أشخاص أعرفهم لبدء العمل، لكن التطورات تسارعت قبل أن نتمكن من الإنتاج. كان هدفي تكثيف الإجراءات التكتيكية لإبطاء الانهيار الاستراتيجي، ولهذا دعمت –بصعوبة– حزام الدفاع عن مديريات كابل لمنع الفوضى قبل دخول طالبان. لكن أكرر أن هذه الأنشطة لم تكن من مسؤولياتي أو صلاحياتي المحددة.
رابعاً: دور الدعاية وتشويه صورة الحكومة كانت بعض وسائل الإعلام المدعومة من الغرب، خاصة من السفارة الأميركية، مكلفة بإظهار الحكومة –ظلماً– على أنها عقبة أمام السلام. وتم تنفيذ هذه الخطة وفق سيناريو مفروض. يعرف الناس مثلاً كيف أن قناة "طلوع"، وهي أكبر وسيلة إعلامية بنت شهرتها وثروتها بفضل الجمهورية، تصرفت بشكل رجعي واستسلمت علناً. وصوّرت الرئيس على أنه شخص متعطش للسلطة، في حين كان يقول في كل اجتماع إن هدفه هو منع الانقطاع والانهيار، لا البقاء في الحكم. لكن ترديد هذه الجمل ومنطق الرئيس لم يكن في مصلحة تلك الوسائل الإعلامية الممولة، ولم يكن مسموحاً لها نشره. كانت مهمتها رسم صورة إيجابية خيالية ومزيفة عن طالبان. ولم يكن لدى الزعماء السياسيين أي مصلحة في إبراز التصريحات الإيجابية للحكومة، بل بذلوا كل ما في وسعهم لإقصائها، وكان الاعتقاد السائد أن طالبان تستهدف نقطة واحدة فقط: القصر الرئاسي.
خامساً: الجيران المشبوهون والانتقاميّون كُتب الكثير عن دور باكستان. فما هو مسيطر الآن باسم طالبان، كان في الحقيقة تنظيماً في المنفى استضافته ودعمته باكستان طوال عشرين عاماً. وقد نوقش دورها التخريبي في انهيار أفغانستان بما يكفي. على سبيل المثال، قاري فصيح الدين فطرت، المسمّى "رئيس الأركان" لدى طالبان، كان بعد إصابته يتلقى العلاج لمدة عام كامل في مستشفى بحيّ حيات آباد في بيشاور، تحت حماية جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية (ISI) أما النقاشات التفصيلية حول كيفية إدارة باكستان للحرب ضد قوات الجمهورية، فهي تحتاج وقتاً أطول من مساحة هذا المقال. إن طالبان، التي يحمل قادتها ألقاب "ملا" و"مولوي"، لم تكن سوى قوة مدفوعة كان توجيهها الفعلي بيد العسكريين الباكستانيين. ومن أخطائنا الكبرى أننا عندما اكتشفنا نوايا الغرب، كان علينا أن نسارع لبناء علاقات دفاعية واسعة مع الجيران، لتعويض خيانة الناتو عبر إيجاد عمق استراتيجي بديل في المنطقة. قال الرئيس غني في مقابلة إنه يدفع ثمن ثقته بالغرب والاتفاقات الموقعة التي لم تُحترم. ومن الناحية النظرية، يُعتقد أن هجمات 11 سبتمبر 2001 أحدثت قطيعة في العلاقة الاستراتيجية بين أميركا والتطرف الديني، لكن بعد مقتل أسامة بن لادن، لم ترغب واشنطن في هزيمة طالبان، بل حاولت استثمارها ضمن مصالحها الأمنية الكبرى، وهذا ما حدث بالفعل.
سادساً يوم الخميس 12 أغسطس 2021، عاد الدكتور عبد الله عبد الله من قطر، ودُعي إلى اجتماع أمني طارئ في القصر الرئاسي. وبعد الاستماع إلى تقارير من شخصيات مختلفة، عرضتُ خطة "المقاومة الوطنية". التزم الرئيس الصمت، فتوجهت عمداً إلى الدكتور عبد الله وقلت: "دكتور، أنت عائد للتو. هل هناك ما يقال، أم نستعد للحرب؟". فأجاب فقط: "إذا افترضنا أن المقاومة ستنشأ، فمن سيتولى هذه التدابير وبأي هيكل؟ لقد تغيرت الظروف". وبعد انتهاء الاجتماع، سألته عند باب منزله الخاص –بناء على معلوماتي– عن أن طالبان تستعد لهجوم واسع بإيعاز من الأميركيين. فأجاب بحذر: "في لقائنا الأخير مع طالبان لم نسمع ما يسمح بالحكم على أن الأمر حرب أو سلام، كان اجتماعنا بلا مضمون". قبل ذلك، كنت قد حاولت مراراً إنشاء لجنة مشتركة لمراقبة الخروقات المزعومة لـ"خفض العنف"، وكان جنرال جلال يفتلي –وهو أيضاً "ملك"– ممثلنا المقترح، لكن الخطة لم تُقبل. وكان خليل زاد يردد أن معظم الخروقات في عملية "خفض العنف" تأتي من الحكومة. هذا المصطلح السخيف لم يُعرّف أبداً. واقترحت تشكيل لجنة تحقق لفضح هذا الادعاء الكاذب، لكن ذلك لم يحدث.
النتيجة سياسياً، بذلت جهدي لتعزيز الوحدة الوطنية، وربما كنت من قلة في مناطق الشمال حاولت أن لا تتسبب أقوالي وأفعالي في إحداث جروح عرقية. لكن الحقيقة أن طالبان ليست سوى حركة قبلية متعصبة بشكل غير مسبوق،، وغالباً بلا إيمان بالتنوع القومي والثقافي في أفغانستان. لأن الدين والمذهب بالنسبة لهم مجرد غطاء لعطشهم المستعر للحفاظ على السلطة، وحين تهدد مصالحهم الفئوية، يضحون بالقرآن في سبيل السلطة. وأبرز مثال هو تجاهلهم للفضائح الأخلاقية والجنسية لكبار قادتهم، التي انتشرت على الإنترنت حتى صارت أفضح من قضية جيفري إبستين في أميركا. وما أُقيم بعد سقوط الجمهورية هو "طالبستان"، ولم يبق من أفغانستان –في الرموز والقيم– شيء؛ لا دستور، ولا رموز وطنية، ولا مشاركة شعبية في الحكم. لهذه الأسباب، فإن هيكل طالبان سينهار، ولا شك في ذلك. لا أستطيع تحديد شكل هذا الانهيار، لكن وقوعه حتمي. أنا اليوم على رأس منظمة "حركة أفغانستان الخضراء(رسا)"، التي لعبت دوراً –بقدر استطاعتها– منذ 2011 في محاربة طالبان، ولا تزال. بعد سقوط الجمهورية، استشهد العشرات من أعضائها خلال السنوات الأربع الماضية، واعتُقل الكثيرون في سجون طالبان. ونعرف جيداً أسلوب محققي طالبان في تعذيب رفاقنا نفسياً. حتى عندما نرى ورقة حكم من محاكم طالبان، نعرف أن أساس أحكامهم ليس الشريعة ولا القانون المدني ولا العرف، بل التعصب المطلق والحقد والكبرياء. ومع كل هذه الصعوبات والتضحيات، فإن شرفنا وكرامتنا أننا لم ولن نعترف بالوضع الذي تلا السقوط. لم ولن نعترف بطالبان، وهذا أحد مفاخرنا التاريخية. فالعيش بحرية له ثمن. يوم الأحد 15 أغسطس، في الساعة 11:40، وصلت إلى قريتي في باغ سرخ بولاية بنجشير، وبدأت فوراً في تعبئة الناس. وبما توفر لدي من بعض المال والقليل من السلاح، استطعت أن أشارك في تشكيل المقاومة ضد طالبان. فالمعركة، إلى جانب بعدها المعنوي والسياسي، تحتاج إلى المال والسلاح والناس. وقد توفرت لنا هذه العناصر الثلاثة جزئياً، وما زالت لدينا الإمكانيات التي تمنع طالبان من ادعاء الاستقرار. طالبان لا يمكنها أن تجلب الاستقرار لأفغانستان. فالاستقرار ليس مجرد السفر الآمن من كابول إلى قندهار، فهذا مجرد جزء صغير من هدوء هش وزائف. قوة طالبان في أنها سلحت نحو 3٪ من سكان الجنوب والجنوب الغربي وبعض المديريات الخاصة في الشمال، وتدفع لهم رواتب لحماية سلطتها الاحتكارية. هذه القدرة ليست متاحة حالياً للقوى السياسية والقومية الأخرى في أفغانستان. لكن التاريخ أثبت أن الاستقرار لا يتحقق ما لم تُلتئم الجراح والانقسامات الداخلية. فالاستقرار هو قاعدة الأمل، والأمل يجلب التنمية والتطور. أما الهدوء القائم على الخوف والقمع فلن يشجع الاستثمار أو يعزز شعور جميع المواطنين بالملكية، ولن يخلق دولة-أمة. الوضع سيتغير حتماً، لأن مسألة الحصول على السلاح –وهي قضية تكتيكية أكثر من كونها استراتيجية– ستُحل يوماً ما. وعندما تُحل، سيتحدث الناس مع طالبان بلغة أفغانستان التاريخية، أي لغة العنف والقوة. فاللغتان الفارسية والبشتوية معلقتان الآن، واللغة الأكثر نفوذاً في البلاد هي فوهة البندقية. ولكي نضمن أن شعور المواطنة المشتركة بين كل القوميات يتعرض لأقل ضرر ممكن في اليوم التالي لانهيار طالبان، فإننا نبذل أقصى جهدنا لتكون حركتنا قائمة على فكر بناء أفغانستان وإعادتها، لا استبدال تكبر قومي بآخر. فنحن نقاتل من أجل إسقاط "طالبستان" واستعادة أفغانستان.
ابتسم قائد الجيش الباكستاني، المارشال عاصم منير، أمام عدسات الصحافيين هذا الأسبوع في فلوريدا، خلال مشاركته في مراسم تغيير قيادة القوات الأميركية في آسيا وأفريقيا، إلى جانب كبار الجنرالات الأميركيين.
وجاءت زيارته الثانية إلى الولايات المتحدة في أقل من شهرين، بينما تشهد العلاقات بين واشنطن ونيودلهي، الحليفين الموصوفين بالاستراتيجيين في آسيا، تراجعاً ملحوظاً، فقد أجّل وزير الدفاع الهندي زيارته المقررة إلى أميركا، فيما أعلنت الخطوط الجوية الهندية تعليق رحلاتها المباشرة إلى واشنطن. وفي المقابل، هدّد عاصم منير الهند بهجوم نووي، قائلاً إنه إذا انهارت باكستان النووية، فإن "نصف العالم سينهار معها". كانت باكستان تدرك شخصية ترامب الميّالة للمقايضة والصفقات، فعرضت على الرئيس الأميركي السماح للشركات الأميركية بالاستثمار في قطاع المعادن، ووقّعت عقوداً في مجال العملات الرقمية مع شركات مرتبطة بعائلة ترامب، وفي وقت كانت فيه الولايات المتحدة تقصف إيران وتؤيد العمليات الإسرائيلية في غزة، أعلنت إسلام آباد أن ترامب يستحق جائزة نوبل. وقدّما صحيفة "فايننشال تايمز" في تقرير جديد لها، سرداً عن التحول السريع في علاقات إسلام آباد وواشنطن خلال ولاية دونالد ترامب الحالية، وانعكاساته العميقة على المشهد الدبلوماسي في جنوب آسيا.
كيف تغيرت العلاقات وذكرت "فايننشال تايمز" أن عاصم منير، أقوى قائد عسكري في باكستان وقائد الجيش، حظي باستقبال حافل في الولايات المتحدة، حيث حضر في فلوريدا حفل تقاعد الجنرال مايكل كوريا، قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، الذي وصف شراكته مع باكستان في مكافحة الإرهاب بـ"الاستثنائية". وفي يونيو الماضي، وبعد شهر فقط من أعنف مواجهة عسكرية منذ عقود مع الهند. وتناول منير غداءً خاصاً استمر ساعتين مع ترامب في واشنطن. وبحسب كثيرين، يُعدّ هذا الترحيب غير معتاد لقائد عسكري لا يشغل منصباً سياسياً، وينتمي إلى بلد سبق أن اتهمه ترامب بـ"الكذب والخداع". لكن العلاقات بين الطرفين ازدهرت، بينما واجهت الهند بروداً أميركياً.
العملات الرقمية والمعادن وترى الصحيفة أن هذا التحول كان نتيجة حملة مدروسة من الجنرالات الباكستانيين، ركزت على التعاون في مكافحة الإرهاب، وبناء صلات مع شخصيات مقربة من ترامب، وإبرام اتفاقات في مجالات الطاقة والمعادن والعملات الرقمية، مع تصريحات ثناء من البيت الأبيض. وأشارت إلى أن خطة "مشروع 2025" الأميركية، التي صدرت قبيل الانتخابات، وصفت الحكومة الباكستانية التي يقودها الجيش بأنها "عميل فاسد للصين". لكن في مارس، سلّمت إسلام آباد أحد عناصر تنظيم داعش خراسان للولايات المتحدة، ما قلب الموازين، وأكسبتها إشادة من ترامب. وفي أبريل، وقّع مشروع عملات رقمية مدعوم من ترامب مذكرة تفاهم مع مجلس العملات الرقمية في باكستان، وقال زاك ويتكوف، نجل المبعوث الأميركي الخاص، إن باكستان تملك "تريليونات الدولارات" من الثروات المعدنية الجاهزة للتحويل الرقمي. ومنذ ذلك الحين، أصبح بلال بن ثاقب، مستشار العملات الرقمية في باكستان، بمثابة دبلوماسي غير رسمي على تواصل مع الدائرة المقربة من ترامب. كما يرى مسؤولون باكستانيون أن طريقة تعاملهم في المواجهة العسكرية مع الهند في مايو الماضي عززت صورتهم لدى ترامب، إذ امتنعوا عن التصعيد رغم إسقاطهم عدة مقاتلات هندية، وأتاحوا لواشنطن ودول الخليج التوسط لوقف إطلاق النار، بل ورشّحوا ترامب لجائزة نوبل للسلام. وجاءت زيارة منير لواشنطن مع استعداد أميركا لضرب إيران، فاستغل الفرصة ليعرض دور باكستان كقناة موثوقة بين واشنطن وكل من طهران وبكين، في مشهد أعاد إلى الأذهان وساطتها في السبعينيات بين الولايات المتحدة والصين. وبعد لقائه قائد القيادة المركزية الأميركية، توجه منير إلى بكين لزيارة مقر الجيش الصيني، ثم استقبل الرئيس الإيراني في إسلام آباد. وقال الباحث في "معهد الشرق الأوسط" مارفن وينباوم، إن باكستان من الدول القليلة التي تربطها علاقات مع الصين وإيران ودول الخليج، وإلى حد ما مع روسيا، والآن مع الولايات المتحدة، ما يمنحها دوراً استراتيجياً.
ردة فعل حادة من الهند وأشارت صحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن تنامي العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد، لا سيما مع فرض رسوم جمركية بنسبة 50٪ على السلع الهندية مقابل 19٪ على الباكستانية، أثار غضب نيودلهي. ونقلت عن مسؤول هندي قوله إن باكستان "حوّلت ضعفها الأولي إلى نجاح" عبر سهولة التعامل مع "أنظمة غير فعالة". لكن رغم هذا التقارب، يبقى خطر عودة ترامب إلى مواقفه المتشددة تجاه باكستان قائماً، فمعظم مواردها الطبيعية غير مستغلة أو تقع في مناطق مضطربة شهدت العام الماضي مقتل أكثر من ألفي شخص في أعمال عنف، كما أن اقتصادها يعتمد على قرض بقيمة 7 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، إلى جانب مساعدات من الصين والخليج. ونقلت الصحيفة عن السفير الباكستاني الأسبق لدى واشنطن حسين حقاني، أن ترامب يستخدم "ورقة باكستان" للضغط على الهند ودفعها إلى طاولة التفاوض، فيما حذّر حسين نديم، المستشار الحكومي السابق، من أن الإفراط في الوعود لترامب قد ينقلب في النهاية ضد إسلام آباد. وأكد رئيس الوزراء الأسبق شاهد خاقان عباسي ضرورة أن تتعامل باكستان بحذر مع تقلبات إدارة ترامب، وتحافظ على مصالحها وكرامتها. ورغم أن الاندفاعة الباكستانية نحو البيت الأبيض تبدو علامة على براعة دبلوماسية ومرونة في المؤسسة العسكرية-السياسية، فإنها تكشف في الوقت نفسه عن هشاشة هيكلية، إذ إن الاعتماد المفرط على علاقة شخصية مع رئيس مثل ترامب، المعروف بكونه أحد أكثر السياسيين الأميركيين تقلباً، يجعل التعاون عرضة للانهيار مع أي تغيير في موازين السياسة الأميركية. وأظهرت التجارب السابقة أن السياسة الخارجية الأميركية، خاصة تجاه دول جنوب آسيا، تتأثر باعتبارات داخلية وتغيّرات مفاجئة في الأولويات، وإذا لم تحوّل باكستان هذه اللحظة إلى مكسب دائم، فقد تجد نفسها مجدداً أمام واشنطن وهي تغيّر مسارها بهدوء نحو شريك آخر. أما بالنسبة للهند، فترى هذه التطورات تهديداً لمكانتها التقليدية كشريك مفضل لواشنطن في جنوب آسيا، وتحدياً لاستراتيجيتها في الموازنة بين الولايات المتحدة وروسيا، فيما يتعين على نيودلهي الآن إدارة التداعيات الاقتصادية للرسوم الجمركية الأميركية، والحذر من أن يصبح التقارب الباكستاني-الأميركي أداة ضغط جديدة على سياساتها الإقليمية.
في أواخر حكمها الأول، فرضت طالبان حظراً على زراعة الأفيون، لكنها في مرحلة مقاومتها الثانية للعودة إلى السلطة رفعت الحظر، وجعلت من هذه الزراعة مورداً مالياً رئيسياً، مضيفة إليها هذه المرة تصنيع المخدرات الكيميائية.
فبعد سقوط طالبان عام 2001، استؤنفت زراعة الأفيون في المناطق الخاضعة لسيطرتها، في خرق واضح لأمر مؤسس الحركة الملا محمد عمر، بشكل علني من دون "دليل شرعي"، وكما حُرّمت زراعة المخدرات لأسباب اقتصادية وسياسية، فقد أُحلّت الآن للأسباب نفسها.
ورغم أن طالبان أقامت محاكم ميدانية في المناطق التي تسيطر عليها، تحت مسمى "تطبيق الحدود الشرعية"، نفّذت خلالها عمليات رجم وإعدام وجلد، فإنها لم تفرض أي عقوبات على زراعة أو إنتاج أو تهريب المخدرات، بل شاركت بشكل مباشر في هذه الأنشطة، وجمعت "العُشر" والضرائب على الأفيون علناً.
وإذا كان إنتاج وتهريب المخدرات لا يراه عامة الناس، ولا يجرؤ أحد على كشفه للإعلام، فإن جباية العُشر والضرائب من زراعة الخشخاش لم تكن سراً. وقد أكد كثير من العلماء حينها أن زراعة الخشخاش محرمة في الإسلام، وأن أخذ العشر منها يمنحها شرعية، وأن طالبان مارست ذلك بلا أي دليل شرعي. ففي عام 2019، قال المفتي شمس الرحمن من كابل: "العشر يكون في المال، والمال شرعاً يجب أن يكون حلالاً، مثل القمح والرمان والعنب. أما الأفيون، فهو مادة مضرة ومخدرة، ولا يُعد مالاً". وأظهرت التطورات الأخيرة أن حظر زراعة الخشخاش لم يكن لدواعٍ شرعية أو لمراعاة مصلحة الشعب. ففي 4 مايو 2020، نشر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بالتعاون مع الجهاز المركزي للإحصاء في أفغانستان، تقريراً بيّن أن زراعة الخشخاش في أفغانستان ارتفعت بنسبة 37% في عام 2020، وأن 71% منها تتركز في المناطق الجنوبية الغربية، وأن 224 ألف هكتار كانت مزروعة بالخشخاش، وجنت 350 مليون دولار، ذهب معظمها إلى جيوب المهربين وطالبان، بينما حصل المزارعون على القليل. وفي 9 يونيو 2020، ذكر موقع "ساوث آسيا مونيتور" أن طالبان أنشأت مصانع لإنتاج الهيروين في ولايتي فراه وبادغيس، حيث يباع 60% من الإنتاج للمدمنين داخل البلاد، ويُهرّب الباقي بالتعاون مع شبكات مافيا دولية إلى إيران وجنوب إفريقيا وأستراليا وآسيا الوسطى. وأنشأت الحركة فريقاً خاصاً باسم "فريق التنظيم" يتولى الإنتاج والتهريب، ويركز حالياً نشاطه على ولاية ننغرهار شرقي البلاد، بهدف تهريب المخدرات إلى دول جنوب آسيا. وقال مكتب الأمم المتحدة عام 2008 إن طالبان تجني ما لا يقل عن خمسين مليون جنيه إسترليني سنوياً من تجارة المخدرات. وليس خافياً أن في صفوف الحركة، قديماً وحديثاً، مليارديرات جمعوا ثرواتهم من هذه التجارة. وقائمة المهربين طويلة، لكن نذكر بعض الأسماء البارزة:
الملا غل آغا بدري، المعروف أيضاً بالمولوي هداية الله بدري
من سكان محافظة ميوند في ولاية قندهار، ومن المقربين من الملا محمد عمر، وأحد مسؤولي الشؤون المالية. بعد سقوط حكومة طالبان عام 2001، انتقل إلى كويته، وتولى رئاسة لجنة الشؤون المالية في مجلس شورى كويته. وكان من مهامه التواصل مع تجار المخدرات، وجمع العشر والضرائب وأجور النقل لتمويل الحرب. وفي حكم طالبان الثاني، أصبح وزيراً للمالية، ثم رئيس البنك المركزي، بينما يشغل حالياً منصب وزير المعادن والنفط.
الخلاف بين الملا محمد رسول والملا أختر محمد منصور
زعيم طالبان السابق الملا أختر محمد منصور
إن السبب الرئيسي للخلاف بين الملا رسول وزعيم طالبان السابق الملا أختر محمد منصور، وفقاً للتقارير، هو أن محمد رسول انشق عن طالبان عام 2015 وشكّل جماعة مستقلة خاصة به، وهو ينحدر من ولاية فراه ومن قبيلة "نورزي". وفي العام نفسه، أفادت وسائل الإعلام بأن أحد أسباب هذا الخلاف هو أن الأموال المحصّلة من تجارة المخدرات لم تكن تُقسَّم بعدالة بين قادة الطرفين. ففي عام 2016، أُفيد بأن جماعة الملا محمد رسول لم ترسل الأموال المتحصلة من تجارة المخدرات في ولايات هلمند وفراه ونيمروز إلى مجلس شورى كويته، الأمر الذي دفع مجلس كويته إلى تنفيذ عملية عسكرية ضد جماعة رسول والقضاء عليها.
مقتل الملا عبد المنان نيازي
عبدالمنان نيازي، القائد المقتول لفصيلٍ منشقّ عن حركة طالبان
أنشأ ملا عبد المنان نيازي، نائباً للملا محمد رسول، قاعدة عسكرية في منطقة جبلية بولاية هرات وكان يوجّه باستمرار انتقادات للملا أختر محمد منصور، ورغم أنه لم يشكّل تهديداً عسكرياً لطالبان، إلا أن جزءاً كبيراً من تجارة المخدرات كان يُهرّب من مناطقه عبر إيران. كان نيازي يخطط لإنشاء مصانع لإنتاج المخدرات في هرات، وتقول المصادر إنه دعا خبراء في تصنيع الهيروين وبدأ فعلياً في إنتاجه داخل منطقته. كما أقام اتصالات مع مهربي المخدرات من قومية البلوش على الجانب الإيراني من الحدود لتسهيل تهريب الهيروين المنتج في أفغانستان إلى إيران. وتشير المصادر إلى أن مجلس كويته شعر بالقلق في ذلك الوقت من أنه إذا واصل نيازي تشغيل مصانع المخدرات في هرات، فسيصبح أقوى اقتصادياً، الأمر الذي سيعزز من قوة جماعته. وفي 12 مايو 2021، تعرّض لهجوم مسلح في مديرية غُذَره بولاية هرات، وتوفي بعد أيام في المستشفى.
حاجي جمعة خان بلوش
كما أنه من بين كبار تجار المخدرات، "حاجي جمعة خان بلوش"، الذي ينحدر من ولاية نيمروز ويُعد من كبار زعماء قوم البلوش، وبدأ منذ عام 1999 بالعمل في تجارة المخدرات. وفي عام 2001، شرع في منطقة بهرامشه الجبلية بولاية هلمند، قرب الحدود مع خط ديورند، في إنتاج الهيروين والاتجار بالأسلحة. ركز جمعة خان بلوش على موقع استراتيجي يسهل التواصل بين المهربين البلوش في أفغانستان وباكستان وإيران. نشرت صحيفة "الغارديان" في 16 أغسطس 2008 مقالاً مطولاً عنه بعنوان "قوة الورد"، ذكرت فيه أنه واحد من بين عشرين مهرباً يديرون تجارة لإنتاج الهيروين تُقدَّر قيمتها بنحو ملياري جنيه إسترليني. اشترى عقارات كثيرة في مدينتي أبوظبي والشارقة، وامتلك سفينة تجارية صغيرة يستخدمها لتهريب الهيروين من باكستان إلى الخارج. كما كانت له صلات مع قادة طالبان، ويُعتبر أحد أهم مصادرهم المالية. وذكر المقال أن جمعة خان بلوش أُلقي القبض عليه في 24 أكتوبر 2008 في جاكرتا بإندونيسيا على يد شرطة الإنتربول، وسُلِّم في اليوم نفسه إلى الأمريكيين وسُجن. إلا أنه أُفرج عنه في 20 أبريل 2018، وبعد الإفراج عنه عاد مجدداً لتجارة المخدرات، وأقام علاقات مع قيادات رفيعة في طالبان، ووفّر لهم مصادر تمويل.
حاجي لعل جان إسحاقزي وفي الأخير، حاجي جان لعل إسحاقزي، الدي ينحدر من ولاية هلمند ويعد من أشهر تجار المخدرات وأحد أبرز الممولين الماليين لحركة طالبان. ففي تقرير صدر عن مجلس الأمن الدولي في فبراير 2015، جاء أن "حاجي لعل جان يتمتع بنفوذ واسع في هلمند، ويُعرف كأحد أكبر الممولين الماليين لطالبان". أُدرج اسمه عام 2011 على قائمة تجار المخدرات، وفي عام 2012 اعتقلته إدارة مكافحة المخدرات في أفغانستان. ووفقاً للتقارير، كانت له علاقات وثيقة مع عائلة الرئيس السابق حامد كرزي، وبمهارة وبطريقة سرية نُقل أولاً من سجن بولي جرخي في كابل إلى سجن قندهار، ثم أُفرج عنه لاحقاً بعد دفعه رشوة. وبعد الإفراج عنه، توجه إلى كويته وعاد للعمل مع مجلس شورى كويته في تأمين الموارد المالية لطالبان.
وتبين التجارب أن كبار المهربين لا يُعتقلون سواء في زمن الحكومة السابقة أو في عهد طالبان الحالي، وإن اعتُقلوا لا يمكثون طويلاً في السجن ويتم الإفراج عنهم بالرشاوى، بينما يقضي صغار المهربين فترات سجن طويلة.
حذّرت مجلة "ذا ديبلومات" من التداعيات العميقة لحظر تعليم الفتيات في أفغانستان، مؤكدة أن حركة طالبان كرّست على مدى السنوات الأربع الماضية التطرف بشكل منهجي وواسع في البُنى الاجتماعية والتعليمية للبلاد.
وجاء في مقال للناشطة الحقوقية نازيلا جمشيدي، والدبلوماسية الأميركية السابقة آني فورزهايمر، تشديدهما على أن "الفتيات اللواتي كان بإمكانهن متابعة تعليمهن في المرحلة الثانوية، أصبحن اليوم زوجات قاصرات ثم أمهات غير راغبات، يربين أبناءهن في ظل أيديولوجية طالبان".
من المدارس الحكومية إلى المدارس الدينية: صناعة جيل مقاتل وترى المجلة أن طالبان تعمل من خلال استبدال المدارس الحكومية بمدارس دينية، على إعداد جيل من الأطفال، خصوصاً الذكور، لدور مستقبلي يتمثل في القتال والدفاع عن أفكارها المتطرفة، ففي حين يُمنع تعليم الفتيات بعد سن الثانية عشرة، تتوسع المدارس الجهادية التابعة لطالبان بسرعة لافتة. ووفقاً لبيانات وزارة التعليم في طالبان، فإنه منذ عام 2021 تم تأسيس أكثر من 22 ألف مدرسة دينية في أفغانستان، مقابل إنشاء 269 مدرسة نظامية فقط، أي بمعدل 85 مدرسة دينية مقابل كل مدرسة عادية، وهو رقم يثير القلق.
قمع النساء... تهديد للأمن العالمي وتتعامل بعض الدول مع قضايا الأمن وحقوق الإنسان في أفغانستان كملفين منفصلين. فبالنسبة لقوى مثل الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة، يبدو أن مكافحة الجماعات الإرهابية وتحقيق الاستقرار أهم من حماية حقوق الإنسان.
وانتقدت المجلة الفصل بين الملفين، ووصفته بأنه "وهم خطير"، مؤكدة أن طالبان، عبر قمعها الممنهج للنساء، لا تنتهك حقوقهن فحسب، بل تُعدّ المجتمع بأسره لتقبّل الفكر المتطرف. وحذرت من أن "كل فتاة محرومة من التعليم هي فرصة ضائعة لبناء مستقبل سلمي، وكل فتى ينشأ داخل هذا النظام الأيديولوجي قد يتحول إلى تهديد خطير".
تجاهل الغرب... دعم للتطرف كما انتقد المقال بعض الأصوات في الولايات المتحدة التي ترى في طالبان شريكاً محتملاً لمواجهة تنظيم داعش، مؤكداً أن أي تعامل مع الحركة، حتى لو كان بغرض كبح جماعات أكثر تطرفاً، يمنح شرعية لحكم يبني جيشاً عقائدياً للمستقبل.پ
وشددت المجلة على ضرورة مواصلة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في دعم حقوق النساء والفتيات الأفغانيات والتمسك بعدم الاعتراف بحكومة تمارس الفصل الجندري الممنهج، بدلاً من التقارب مع طالبان. وأكدت المجلة على أن الدفاع عن حقوق المرأة الأفغانية ليس مجرد عمل إنساني، بل هو ركيزة أساسية في استراتيجية الأمن العالمي، إذ إن "القمع المنهجي للنساء في أفغانستان ليس هجوماً على نصف سكان البلاد فحسب، بل هو بيئة خصبة لولادة موجة جديدة من التطرف، ستتجاوز آثارها حدود أفغانستان".