من العمق الاستراتيجي إلى المأزق الاستراتيجي: المواجهة الجديدة لباكستان مع طالبان
يقدّم الباحث الأفغاني في الدراسات الأمنية، بسم الله تابان، قراءة تحليلية لعلاقة باكستان بحركة طالبان، من مفهوم "العمق الاستراتيجي" إلى "المأزق الاستراتيجي"، متتبعاً خلفيات الغارات الجوية الأخيرة، وجذور الأزمة المتصاعدة بين الجانبين.
شنّت القوات المسلحة الباكستانية غارات جوية (رغم أن الجيش الباكستاني لم يعترف بذلك بشكل قاطع حتى الآن) في مساء العاشر من أكتوبر 2025 على عدة نقاط لا تقل عن ثلاث ولايات بينها العاصمة الأفغانية كابل، ما أثار ردود فعل متباينة. وأكّد المتحدث باسم طالبان بعد نحو ساعتين من سماع دوي الانفجارات في مدينة كابل في تغريدة مختصرة وقوع الانفجارات، واصفاً الموضوع بأنه ليس ذا أهمية تستدعي القلق. كما أصدرت وزارة الدفاع لدى الحركة، بعد تأخير يقارب 15 ساعة، بياناً موجزاً اعتبرت فيه الهجوم عملاً للقوات الجوية الباكستانية وحذّرت من تبعاته.
أبدى سياسيون أفغان سابقون أيضاً ردود فعل مختلفة؛ إذ أدان الرئيس السابق حامد كرزي الحادث، واعتبر مستشار الأمن الوطني السابق، رنغين دادفر سبنتا، أن ذلك يعدّ اعتداءً على أفغانستان، مشدداً على أن الموقف المناوئ لطالبان وحب الوطن قضيتان منفصلتان، وأن ما قامت به القوات الجوية الباكستانية هو اعتداء واضح على أفغانستان. ومنذ الدقائق الأولى، وبالرغم من أجواء الخوف والترقّب السائدين في ظل حكم طالبان، كتب سكان كابل عن سماعهم عدة انفجارات تحوّلت ومرور طائرات حربية في أجواء المدينة. وقد وجّه كثيرون، من دون انتظار موقف رسمي من طالبان أو اعتراف ضمني من الجيش الباكستاني، أصابع الاتهام نحو باكستان. في هذه الإحاطة المختصرة سأحاول تناول خلفية هذا الهجوم واستعراض السيناريوهات المحتملة من منظور أمني.
عزّزت طالبان وجودها سريعاً أمام القوى الجهادية الأخرى بدخولها من الأراضي الباكستانية إلى ولاية قندهار عام 1994. ولقيت الحركة في حكومتها الأولى دعماً ملحوظاً من عناصر ودوائر في باكستان، وهو ما أقرّ به وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف ووصفه بأنه «عمل قذر لأميركا»، وكانت باكستان واحدة من ثلاث دول اعترفت بطالبان خلال فترتها الأولى.
فرّ عناصر الحركة بعد هزيمتهم أمام قوات تحالف الشمال وحلف الناتو عام 2001 إلى مناطق القبائل في باكستان. ورغم اعتقال عدد من قادة طالبان، منهم ملا برادر في باكستان، فقد استخدمت الحركة خلال عقدين من فترة الحكومة الأفغانية السابقة أرض باكستان، ولا سيما مناطق إقليم خيبر بختونخوا وبلوشستان، ملاذاً آمناً، فتلقّت منها دعماً مالياً وبشرياً وتدريبياً وانطلقت منها لتقاتل ضد الشعب والحكومة الشرعية في أفغانستان.
استناداً إلى أدلة ووقائع جمةّ، كان الاعتقاد السائد أن طالبان هي حركة بالوكالة وعميلة لباكستان ضد الشعب الأفغاني، في وقت كانت باكستان نفسها داعماً رسمياً للحملة العالمية ضد الإرهاب، وتلعب دوراً مزدوجاً عبر إتاحة قواعد عسكرية ومسارات عبور لوجستية لقوات الناتو من خلال موانئها تجاه أفغانستان. وطالما أثارت هذه السياسة الملتبسة قلق الحكومات الأفغانية مطالبة باكستان بوقف إيواء عناصر طالبان، لكن الأمر استمر حتى استعادة طالبان للسلطة.
أثار صعود طالبان في أفغانستان فرحة لدى بعض السياسيين، لا سيما حزب تحريك إنصاف بزعامة رئيس الوزراء السابق عمران خان، ودوائر في المؤسسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية الباكستانية. زار الجنرال فيض حميد، رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية، كابل ولعب دور "المدرّب" في تشكيل ما وصفته الدوائر بتوزيع المناصب في ما يسمى حكومة طالبان، وكانت تغريدة عن احتساء قهوته في فندق "سيرينا كابل" قد أثارت ضجة. لكن تلك الفرحة لم تطل أمدها في أوساط السياسة والأمن في باكستان، على نحو لم يكن كما وصفه السيد حميد "ممتعاً".
في الأيام التي كان فيها فيض حميد منشغلاً بالاحتفال الظاهري بانتصار طالبان في كابل، نُقلت آلاف قطع السلاح وملايين الطلقات المتبقية من القوات الحكومية والأجنبية، في الغالب من ولايات الجنوب والشرق الأفغاني، إلى داخل باكستان عبر طالبان وشريكهم البارز، حركة طالبان باكستان (TTP). وصلت هذه الأسلحة والذخيرة في الأسابيع الأولى لصعود طالبان إلى يد عناصر الحركة الباكستانية وجيش تحرير بلوشستان، مما ضاعف قدرات تلك الجماعات بأبعاد مختلفة.
تشير إحصاءات مراكز الأبحاث الإقليمية، لا سيما في باكستان، إلى أن صعود طالبان تزامن مع ارتفاع غير مسبوق في هجمات الجماعات الإرهابية داخل باكستان. ومع مرور كل يوم من حكم طالبان في أفغانستان كانت الحقائق الميدانية المؤكدة لخطر تهديدات أمنية داخل باكستان تتزايد، حتى أن أصوات أسلحة M4 وM16 الأميركية وعمليات السيارات المفخخة لحركة طالبان باكستان جعلت الأجهزة الأمنية الباكستانية تدرك أن ثمار البذرة المرة التي زرعتها قد أتت آكلها، لكن هذه الإدراك جاء متأخراً جداً.
كرر قادة باكستان مراراً قلقهم من التهديدات الإرهابية القادمة من أفغانستان متوقعين أن تتعامل طالبان الأفغانية بجدية مع هذه المخاوف وتتخذ إجراءات عملية، لكنّ ذلك لم يحدث؛ بل إن طالبان فرشّت السجّاد الأحمر لقيادات حركة طالبان باكستان وجيش تحرير بلوشستان، وأعدّت لهم ضيافات فاخرة في كابل وولايات أخرى. وبجانب تنظيمات إرهابية أخرى مثل القاعدة وجيش العدل وأنصار الله وحركة تركستان الشرقية والتحرير الإسلامي الأوزبكي، حازوا على وصول غير مقيد إلى مرافق النظام وحتى شُيّدت لهم مجمعات سكنية عصرية في نقاط متفرقة من أفغانستان.
تكرّرت مطالبات باكستان بلا جدوى، وردّت طالبان بإنكار وجود هذه الجماعات واعتبرته مسألة داخلية باكستانية، وكما يقال في المثل الدارج بين الأفغان: "أمسك مالك ولا تتهم جارَك بالسرقة". ومع وجود تقارير موثوقة عن وجود فصائل إقليمية ودولية، بما فيها حركة طالبان باكستان، في أفغانستان، استمرت طالبان الأفغانية في النفي، ولم تعترف حتى بوجود أو مقتل أيمن الظواهري. لكن الحقيقة أن هذه الجماعات متواجدة على نحو واسع في أفغانستان وتزداد قوتها يومياً لتشكّل تهديداً إقليمياً ودولياً.
أدّت تكرار مطالب باكستان وردود طالبان السلبية إلى قيام باكستان مرات عدة باستهداف عناصر حركة طالبان باكستان داخل أراضي أفغانستان بقصف جوي، وكان رد طالبان الأفغانية سابقاً مقتصراً على الإدانة والادعاء بوقوع ضحايا مدنيين. وآخر هذه الحوادث كان في ليلة العاشر من أكتوبر الجاري حين سمع سكان كابل دويّ انفجارات عنيفة.
نشر أهل كابل في تلك الليلة مئات الرسائل على الشبكات الاجتماعية تتحدث عن أصوات الانفجارات في أنحاء المدينة، لكن طالبان ظلت صامتة حتى بعد ساعتين حين أكّد ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم الحركة، في منشور على منصة "إكس" وقوع انفجارات وادّعى أن "كل شيء على ما يرام وبخير، ولم تحدث أي مشكلة". حاولت طالبان كعادتها طمس الموضوع بالكتمان والكذب، لكن شدة الانفجارات حالت دون ذلك.
أصدرت وزارة دفاع طالبان بيانها بعد نحو 15 ساعة لتقول إن القوات الجوية الباكستانية اخترقت الأجواء فوق كابل وأنها تندد بذلك. ومع ذلك، وبحسب معلومات متضاربة، فقد استُهدفت مواقع في كابل وكنر وبكتيا، وانفجرت في سماء كابل قنابل صوتية كبيرة. وربما كانت وظيفة تلك القنابل الصوتية التغطية على قنابل أكثر حساسية أُطلقت على أهداف مهمة أخرى.
بعد ليلتين، في 12 أكتوبر 2025، نشرت قوات طالبان عبر فيديوهات وصور ادّعت فيها أنها شنت هجمات على نقاط على امتداد خط ديورند/الحدود بين البلدين، واستولت على عدد من نقاط حراسة باكستانية وألحقت بها خسائر. وفي المقابل أكدّت باكستان وقوع اشتباكات وأنها استولت على عدة نقاط تابعة لطالبان وأسفرت عن قتلى كثيرين بينهم. وعلى الرغم من أن الأدلة المنشورة من كل طرف تشير إلى معارك مسلحة، فإن غياب وصول وسائل إعلام مستقلة حال حتى الآن دون تأكيد مزاعم أي من الطرفين من جهة محايدة.
وفي منتصف تلك الليلة نفسها، زعمت وزارة دفاع طالبان أن عملية الانتقام ضد القوات الباكستانية انتهت بنجاح. ووصف بعض الأفغان، خصوصاً داعمو طالبان، هذه الخطوة بنوع من الوطنية وحاولوا توظيفها لإكساب الحركة قبولاً شعبياً وشرعية داخلية، وهو ما سعت طالبان لتحقيقه طيلة الأربع سنوات الماضية. أما آخرون فاعتبروها عرضاً مضحكاً لتوجيه الرأي العام وزعموا أن قيادات طالبان على علاقة وثيقة بباكستان ولا تجرؤ على مواجهتها.
من جهة أخرى، لطالما اعتبرت طالبان أعمالها المسلحة خلال العقدين الماضيين "جهاداً" وادّعت أن لها التزاماً شرعياً للرد على "الاعتداء" على أراضي أفغانستان. لكن رداً على هذه الهجمات ظل زعيم طالبان صامتاً واكتفت التصريحات الرسمية بكلمات مثل "الانتقام" أو بالقول إن هناك "دوائر داخل باكستان تريد تشويه العلاقات"، دون إجراءات أكبر. وهنا يطرح السؤال: هل كان تدخل القوات الباكستانية داخل الأراضي الأفغانية اعتداءً؟ وإذا كان الجواب نعم، فلماذا ظل زعيم طالبان صامتاً؟ وإذا لم يكن اعتداءً بل عملية منسقة، فلماذا أطلقت طالبان تلك العروض الهزلية تحت اسم "الانتقام" لاحقاً؟
فما السيناريو التالي؟
يتزايد تعقيد اللعبة السياسية والعسكرية بين باكستان وطالبان يوماً بعد يوم. أقامت طالبان، خصوصاً جناح قندهار، علاقات مقربة مع الهند، وهو ما تُعدّه باكستان تهديداً خطيراً لأمنها القومي. وفي حرب قصيرة بين الهند وباكستان، وعلى نحو مخالف للتوقّعات، أعلنت طالبان حيادها (والحقيقة دعمت الهند). وفي تلك الفترة قام نائب وزير الداخلية للشؤون الأمنية في طالبان، مولوي إبراهيم صدر، برحلة سرية إلى الهند، كما عبَر عدد من عناصر حركة طالبان باكستان وبعض من طالبان الأفغان الحدود إلى باكستان لفتح جبهة جديدة في مناطق خيبر بختونخوا لإشغال القوات الباكستانية. وفي رد سريع جوي، أطلقت القوات الباكستانية النيران على نحو سبعين من هؤلاء أثناء دخولهم باكستان على الخطوط الحدودية بحسب ادعائها، ما أدى إلى القضاء على هذه الجبهة بحسب بيانها.
تزامنت الغارات الجوية الباكستانية أيضاً مع زيارة وزير خارجية طالبان أمیر خان متقي إلى الهند، الزيارة التي رحّبت بها الدوائر الهندية ومهّدت لعقد لقاءات متعددة مع مسؤولين ومؤسسات دينية، منها مدرسة دار العلوم ديوبند المعروفة بترويجها للتشدد الديني.
في مؤتمر صحفي بمقر السفارة الأفغانية في نيودلهي، وبين لوحة كبيرة لصورة بوذا باميان المدمّر خلفه، هدد متقي باكستان قائلاً: "لا تختبروا صبرنا". تلك العبارة، المتكررة مرات عدة، حسّاسة من حيث الزمان والمكان وأظهرت أن الهند استغلت وجود متقي لإعلان موقف سياسي ضد باكستان.
وفي مساء اليوم التالي للقصف على كابل نشر خواجة آصف، وزير الدفاع الباكستاني، عبر منصة إكس منشوراً تصعيدياً اعتبر فيه دخول قوات بلاده إلى أراضي أفغانستان حقاً لها؛ وهو موقف أثار ردة فعل لدى كثير من الأفغان حتى من معارضي طالبان. وفي مؤتمر صحفي في بيشاور بتاريخ 10 أكتوبر، أجاب المتحدث باسم الجيش الباكستاني عن سؤال ما إذا كانت باكستان نفّذت الضربة من عدمها قائلاً من دون اعتراف مباشر: "نحن مستعدون لاتخاذ أي إجراء لحماية شعبنا".
بدت لهجة تصريحات المسؤولين الباكستانيين متشددة ولا توحي بتسوية. وفي الوقت ذاته تحاول طالبان توظيف هذا الوضع لإشعال الحساسيات الوطنية لدى الأفغان وتغطية جرائمها الداخلية.
إلى أين يمكن أن يفضي هذا الصراع؟ هل ما ادّعاه خواجة آصف -أي احتمال دخول القوات الباكستانية إلى أفغانستان- قابل للتنفيذ؟ يبدو أن باكستان لن تقدم على مغامرة لا رجعة فيها إلا في حال أخطأت حساباتها وتجاهلت دروس التاريخ. ومن ناحية أخرى، طالما طالبان في السلطة فالأمل في تقليص التهديدات ومكافحة الإرهاب يُعد أمراً بعيد المنال ووهمياً.
وأعتقد أيضاً أنه بالنظر إلى علاقات باكستان الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن شن غارة جوية على كابل من غير "ضوء أخضر" من البنتاغون والبيت الأبيض يبدو غير مرجّح. ويطرح هذا تساؤلاً مهماً: هل تمهّد هذه الأفعال لخطط دونالد ترامب الرامية إلى "استعادة" مطار باغرام؟ أياً يكن الأمر، لا يمكن للاحتلال الخارجي وحده أن يحلّ قضية أفغانستان وينهي ظلم طالبان؛ ويمكن أن يكون حلاً مؤقتاً على غرار ما حدث عام 2001، لكنه ليس بحلٍّ دائم.
وأرجح أن أنجع الطرق وأدومها لتفكيك سلطة طالبان تبدأ أولاً بتقوية خطاب وطني جاد وصادق يضم طالبان أيضاً؛ وإذا أخفقت هذه المقاربة أو رفضت طالبان المشاركة، فحينها يبرز خيار دعم سياسي وعسكري واستخباراتي للقوى المناوئة لطالبان. ويجب ألا ننسى أن وجود قوات أجنبية -حتى جندي واحد- قد يشرعن سرديات الجماعات المتطرفة مثل طالبان استناداً إلى تفسيرات دينية مغلوطة.
بناءً على ذلك، يمكن قراءة علاقات طالبان وباكستان ضمن ثلاثة سيناريوهات محتملة:
أولاً: قد تُستخدم الضربات الجوية الباكستانية كأداة ضغط تدفع طالبان إلى التفاوض مع إسلام آباد، والمطالبة بتسليم عناصر " حركة طالبان باكستان" وإخراجهم من أفغانستان. لكن تنفيذ هذا المطلب سيكون باهظ الثمن سياسياً وعلى صعيد المصداقية داخل صفوف طالبان.
ثانياً: انطلاق حوار لا نهاية له يستمر معه انعدام الأمن داخل باكستان، وإنْ ربما شهد تراجعاً إحصائياً بسيطاً؛ كما قد تُستخدم سياسة الضغط على اللاجئين الأفغان المقيمين في باكستان وسيلة للضغط على طالبان، في حين أن طالبان لا تعتبر نزوح اللاجئين قضية بل أداة تُفاقم معاناة الشعب الأفغاني داخلياً وتعتبر المطرودين مصدر تمويل عبر وجوب جمع العُشر والزكاة دون تقديم أي مساعدة لهم.
ثالثاً: تمهيد لحشد دعم دولي -وبرعاية تشمل باكستان وبدفع أميركي- للقوى المعارضة لطالبان بهدف إسقاط حكم الحركة مقابل وعدٍ بالقضاء على حركة طالبان باكستان، وهذا السيناريو يبدو أكثر احتمالاً واستدامة من سابقيه.
في هذا المقال، يستعرض الصحفي الأفغاني وحيد بيمان، خلفيات الغارة الجوية على كابل، مسلطاً الضوء على هوية المستهدفين نور ولي محسود وغل بهادر، ودلالات وجود قادة حركة طالبان باكستان داخل العاصمة الأفغانية.
في أعقاب الغارات الجوية التي شنّها الجيش الباكستاني على كابل، أفادت مصادر بأنّ المركبة التي كانت تقلّ زعيم حركة طالبان باكستان، نور ولي محسود، تعرّضت للاستهداف، غير أنّه نجا من الهجوم، كما تشير تقارير إلى أنّ حافظ غل بهادر، أحد القادة العسكريين في الحركة، يتردد أحياناً على العاصمة كابل، وبات يسبّب حرجاً لحركة طالبان الأفغانية. يُعدّ كل من نور ولي محسود وحافظ غل بهادر من أبرز القادة النافذين في حركة طالبان باكستان، وينحدران من قبائل وزيرستان. وقد لعبا دوراً محورياً في تأسيس الحركة واستمرارها، إضافة إلى جماعات متفرعة عنها. خاض الاثنان معارك طويلة في أفغانستان، وأقاما علاقات وثيقة مع شبكة حقاني وطالبان الأفغانية، كما شاركا في مراحل مختلفة في القتال ضد الجيش الباكستاني.
نور ولي محسود يُعرف بين مقاتليه بلقب "أبو منصور عاصم"، وكان في السابق قاضياً شرعياً، ثم تولّى قيادة فرع الحركة في كراتشي. وبعد مقتل مولوي فضل الله في غارة أميركية عام 2018، اختاره مجلس شورى الحركة زعيماً جديداً لها.
دوره ومكانته داخل الحركة عمل محسود بعد توليه القيادة على إعادة بناء الهيكل المتصدّع للحركة، فوحد الفصائل المنشقة مثل "جماعة الأحرار" و"حزب الأحرار"، ووجّه العمليات ضد قوات الأمن الباكستانية. وفي عام 2019 أدرجت الولايات المتحدة اسمه على قائمة "الإرهابيين الدوليين"، كما فرض مجلس الأمن عقوبات عليه. وبحسب مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في تقرير عام 2023، فقد سعى محسود إلى تحويل الحركة من تنظيم متشرذم إلى كيان منسّق وذي أهداف محددة، مع تقليص استهداف المدنيين.
علاقته بطالبان الأفغان شارك نور ولي محسود في القتال داخل أفغانستان خلال تسعينيات القرن الماضي وما بعد عام 2001، ومنذ ذلك الوقت أقام علاقات شخصية وتنظيمية مع طالبان الأفغان. وبعد عودتهم إلى السلطة في كابل عام 2021، عادت تلك الروابط إلى النشاط مجدداً. ويصف تقرير فريق العقوبات في الأمم المتحدة لعام 2023 العلاقة بين طالبان الأفغان وحركة طالبان باكستان بأنها "وثيقة وتكافلية"، مؤكداً أنّ الأخيرة تستخدم الأراضي الأفغانية لتنظيم هجماتها ضد أهداف داخل باكستان. كما أظهرت دراسة أعدّها الباحثان "عبد السيد" و"توره هامينغ" لصالح مركز "سي تي سي سنتينيل" التابع للأكاديمية العسكرية في "ويست بوينت" أنّ الحركة بعد 2021 حصلت على أسلحة أكثر تطوراً، وأعادت بناء قيادتها، وركّزت عملياتها على قوات الأمن الباكستانية. وبحسب معهد دراسات السلام في باكستان (PIPS)، شهد العام 2024 أكثر من 500 هجوم داخل البلاد أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 850 شخصاً. أما في الربع الأول من عام 2025، فأعلن مركز الأبحاث والدراسات الأمنية في باكستان (CRSS)، أنّ البلاد شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في مستوى العنف، إذ قُتل نحو 900 شخص في ثلاثة أشهر، معظمهم في ولايتي خيبر بختونخوا وبلوشستان، حيث تُحمّل إسلام آباد حركة طالبان باكستان المسؤولية المباشرة. وكانت حركة طالبان الأفغانية توسطت عام 2022 في مفاوضات بين الحركة والحكومة الباكستانية انتهت بوقفٍ مؤقت لإطلاق النار، لكنّ طالبان باكستان أعلنت لاحقاً إنهاء الهدنة واستأنفت هجماتها. ومع ذلك، ظلت الروابط الفكرية والأيديولوجية قائمة، إذ وصفت الحركة الباكستانية "انتصار طالبان في كابل" بأنه "إلهام للجهاد في المنطقة". ورغم نفي كابل المتكرر، تؤكد السلطات الباكستانية أن قادة طالبان باكستان يقيمون داخل أفغانستان. وقد قال وزير الدفاع الباكستاني قبل ساعات من الغارات الأخيرة في كابل إنّ "صبرنا قد نفد".
الفكر الأيديولوجي يستند فكر نور ولي محسود إلى المدرسة الديوبندية وإلى فكرة "الجهاد الشرعي ضد الدولة الباكستانية". وفي كتابه "ثورة محسود"، وصف القوانين الوضعية في باكستان بأنها "غير إسلامية"، واعتبر القتال ضدها "واجباً دينياً". وفي السنوات الأخيرة، حاول تمييز حركته عن تنظيم "داعش خراسان" عبر تقديمها كنسخة أكثر "انضباطاً" من الجهاد المحلي، رغم أن عملياته ما زالت تحصد أرواح مدنيين. وتُعدّ الغارة التي استهدفته في كابل ثاني هجوم أجنبي داخل العاصمة الأفغانية منذ عودة طالبان إلى الحكم، بعد مقتل أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، في غارة أميركية عام 2022، وهو ما أثار مجدداً تساؤلات حول وجود الجماعات المتطرفة في البلاد.
حافظ غل بهادر ينتمي غل بهادر إلى عشيرة "مده خيل" من قبيلة عثمانزي في وزيرستان. وتشير تقارير إلى أنه نشأ في بيئة دينية قبلية تداخلت فيها منذ ثمانينيات القرن الماضي شبكات الجهاد الأفغاني والمقاتلون الأجانب. وبحسب "مؤسسة جيمزتاون" البحثية، درس العلوم الدينية في إحدى المدارس الديوبندية بمدينة ملتان، وشارك لاحقاً في الحرب الأفغانية، حيث ارتبط تدريجياً بشبكة حقاني. وتذكر بعض المصادر أنه من نسل "ميرزا علي خان المعروف بالفقير إيبي"، أحد رموز المقاومة في وزيرستان ضد البريطانيين ثم ضد الدولة الباكستانية.
من الظهور إلى اتفاقات السلام برز اسم حافظ غل بهادر عام 2005 مع إطلاق الجيش الباكستاني حملة واسعة لطرد المقاتلين الأجانب من شمال وزيرستان، وكان وقتها أحد القادة المحليين الذين جمعوا بين القتال والتفاوض. وبعد أشهر من الوساطات القبلية والدينية، وُقّع "اتفاق سلام شمال وزيرستان" في سبتمبر 2006 بمشاركة شخصيات مثل جلال الدين حقاني وملا داد الله، وبحسب تقارير نُسبت حينها رسالة من الملا عمر دعا فيها قادة طالبان المحليين إلى تجنّب الحرب مع الجيش الباكستاني. بعد الاتفاق، عزّز غل بهادر موقعه كـ"القائد العام لطالبان في شمال وزيرستان"، وفرض نظاماً إدارياً ومالياً في المنطقة يشمل فرض الضرائب وتنفيذ الأحكام الشرعية.
علاقته بحركة طالبان باكستان: قرب وابتعاد عقب تأسيس حركة طالبان باكستان في ديسمبر 2007، عُيّن نائباً لزعيمها بيت الله محسود، لكنه سرعان ما ابتعد عنها بسبب رفض الملا عمر لتوسيع القتال ضد الدولة الباكستانية، مفضلاً التركيز على الجبهة الأفغانية. وفي فبراير 2008 توصّل مجدداً إلى تفاهم مع إسلام آباد، وانتقد استخدام بيت الله محسود أراضي شمال وزيرستان للهجوم على الجيش. ثم أسّس في فبراير 2009 مع بيت الله محسود وملا نذير تحالفاً باسم "مجلس اتحاد المجاهدين" لتنسيق القتال في أفغانستان. وفي نهاية عام 2011، أورد "المعهد الدنماركي للدراسات الدولية (DIIS)، أنه أسّس "مجلس المراقبة" إلى جانب شبكة حقاني وملا نذير، بهدف تجنّب الصدام مع الجيش الباكستاني والتركيز على الحرب في أفغانستان. وقد ظل هذا النهج سائداً بين قادة وزيرستان لسنوات لاحقة.
فصائل فرعية جديدة منذ عام 2023 برزت تسميات جديدة مثل "تحريك جهاد باكستان" و"جبهة أنصار المهدي - خراسان"، وهي مجموعات يُعتقد أنها تابعة لطالبان باكستان ومرتبطة بفصيل غل بهادر. ولا تختلف هذه الفصائل كثيراً من حيث الأهداف أو أساليب العمل، وتُستخدم غالباً كواجهات إعلامية أو عملياتية في مناطق محددة. وتُظهر مسيرة غل بهادر صورة "القائد الوسيط" الذي شارك في اتفاقات سلام متعددة كما خاض معارك حدودية دموية. بين عامي 2006 و2014، اختبر جولات متكررة من الصلح والقتال، قبل أن تضعف شبكته بشدة خلال عملية "ضرب عضب" التي شنها الجيش الباكستاني.
الرسالة الباكستانية خلال الأشهر الماضية، طالبت باكستان مراراً حركة طالبان أفغانستان بكبح نشاط حركة طالبان باكستان داخل أراضيها، لكنّ كابل نفت باستمرار وجود عناصر الحركة لديها. غير أن ظهور نور ولي محسود وغل بهادر في العاصمة الأفغانية كشف عكس ذلك، وأثبت، في نظر مراقبين، أن طالبان لم تكن صادقة لا مع واشنطن ولا مع إسلام آباد. وباستهداف زعيم طالبان باكستان داخل كابل، وجّهت إسلام آباد رسالة واضحة للعالم بأن العلاقة الأيديولوجية بين طالبان الأفغان وحركة طالبان باكستان أعمق بكثير مما يُعلن، وأنها تمتد من الميدان إلى بنية التنظيم والفكر.
يسافر وزير خارجية طالبان، أمير خان متقي، إلى الهند الأسبوع المقبل بعد مشاركته في اجتماع "صيغة موسكو" في روسيا، مستفيداً من إعفاء سفر مؤقت لمدة أسبوع منحته له لجنة العقوبات في مجلس الأمن الدولي.
يستعرض الصحفي وحيد بيمان في هذا المقال الأهداف المحتملة لهذه الزيارة، التي تحمل طابعاً سياسياً واقتصادياً وجودياً لطالبان على المستوى الإقليمي.
1. تثبيت التمثيل الدبلوماسي لطالبان بالنسبة لوزارة الخارجية التابعة لطالبان، لا تكاد توجد أولوية تفوق السعي إلى تفعيل البعثات الدبلوماسية الأفغانية في الخارج أو تعيين دبلوماسيين فيها. فسفارة أفغانستان في نيودلهي أغلِقت عام 2023 بسبب أزمات مالية وسياسية، ومنذ ذلك الحين تقتصر خدماتها على بعض المعاملات القنصلية. وتضغط طالبان منذ أشهر لتعيين ممثلين عنها في السفارة، بالإضافة إلى قنصليات مومباي وحيدر أباد، رغم أن الحكومة الهندية تتعامل حتى الآن مع هذه المساعي بحذر. ومن المتوقع أن يدفع متقي بقوة خلال زيارته لتثبيت هؤلاء الدبلوماسيين، إذ تعتبر طالبان السيطرة على البعثات الدبلوماسية إنجازاً سياسياً كبيراً، تسارع إلى الترويج له إعلامياً عند حدوث أي اتفاق مع الدول المستضيفة. ويطمح متقي إلى إضافة الهند إلى قائمة الدول التي نجحت طالبان في تحقيق اختراق دبلوماسي معها.
2. تعزيز العلاقة مع الهند في ظل تدهور العلاقات مع باكستان تشهد العلاقة بين طالبان وإسلام آباد توتراً متصاعداً منذ عام، بلغ ذروته في الشهور الأخيرة. فقد صرّح رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف مؤخراً بأن على طالبان أن تختار بين التعاون مع الدولة الباكستانية أو دعم "حركة طالبان باكستان" التي تُتهم كابل بدعمها. ونفذت حركة طالبان باكستان، المدعومة وفق اتهامات إسلام آباد من نظيرتها الأفغانية، عدة هجمات دامية داخل الأراضي الباكستانية مؤخراً، ما دفع بالأزمة إلى حد الاشتباكات الحدودية. في هذا السياق، يسعى متقي لاستثمار التنافس التاريخي بين الهند وباكستان لتعزيز موقف طالبان إقليمياً، عبر فتح قنوات تعاون مع نيودلهي، وإرسال رسالة سياسية إلى إسلام أباد مفادها أن طالبان تملك بدائل وشراكات أخرى. وقد ظهرت مؤشرات على تقارب أمني بين نيودلهي وطالبان، من بينها لقاء وكيل وزارة الخارجية الهندية فيكرام ميسري بأمير خان متقي في دبي، يناير 2025، واتصالات هاتفية مباشرة بين وزير الخارجية الهندي سوبراهمنيام جايشانكار ومتقي في مايو الماضي. وتشير التوقعات إلى أن الهند ستطرح خلال الزيارة موضوع "عدم استخدام الأراضي الأفغانية ضد الهند" بشكل أكثر تفصيلًا. وترى طالبان في هذا المسار فرصة لإبراز استقلالها عن باكستان واستخدامه كورقة ضغط جيوسياسية أمام نيودلهي.
3. تقليص النفوذ الصيني في أفغانستان تُعد الصين أول دولة أرسلت سفيراً جديداً إلى كابل بعد استيلاء طالبان على السلطة، وتبادلت معها الاعتراف الرسمي على مستوى السفراء. وتُظهر الوقائع أن بكين تسعى لتعزيز حضورها الاقتصادي عبر مشاريع التعدين والبنية التحتية، ومنها مشروع "الحزام والطريق". وقد عبّرت الهند عن قلقها من الانفراد الصيني بالساحة الأفغانية، لا سيما بعد زيارة وزير الخارجية الصيني إلى كابل في أغسطس 2025، حيث ناقش مشاريع استراتيجية تتعلق بالمعادن والطاقة. وتشير التقارير إلى أن نيودلهي رفعت مستوى اتصالاتها مع طالبان عقب اللقاء في دبي، في محاولة لتأمين موقع لها ضمن التنافس الجيو-اقتصادي، ومنع احتكار الصين للفرص المتاحة في أفغانستان. وترى طالبان من جهتها أن الهند قد تكون شريكاً اقتصادياً مهماً، وسوقاً واعدة، وطريقاً بديلاً عن الارتهان الكامل لبكين وإسلام آباد.
4. نقاش حول ميناء تشابهار وطرق العبور يُعد ميناء تشابهار الإيراني شرياناً حيوياً للهند في ربطها بأفغانستان وآسيا الوسطى دون المرور عبر باكستان. إلا أن قرار الولايات المتحدة في سبتمبر 2025 بإلغاء الإعفاءات المتعلقة بميناء تشابهار، وضع هذا الممر في دائرة الخطر، وسط تشديد العقوبات على الشركات والبنوك العاملة فيه. وتسعى طالبان في هذه الزيارة لفهم الطريقة التي تنوي بها الهند إبقاء هذا المسار نشطاً رغم الضغوط الأميركية، لا سيما أن نيودلهي أرسلت ثلاث حاويات مساعدات إلى كابل عبر تشابهار قبل سريان العقوبات بأيام، في خطوة فسرتها الصحافة الاقتصادية الهندية على أنها "رمزية" ومقصودة. ومن منظور الهند، فإن تعطيل هذا المسار يترك المجال واسعاً أمام الصين لتعزيز نفوذها التجاري واللوجستي في المنطقة. لذا، فإن المحادثات حول قضايا فنية مثل التأمين، والنقل البحري، وآليات الدفع ستكون على قدر أهمية البيانات السياسية. والنتيجة المرجوة للطرفين هي الإبقاء على حد أدنى من نشاط هذا الممر، لتسهيل إيصال المساعدات وتبادل السلع غير الحساسة. أما إذا فشل ذلك، فستضطر طالبان إلى الاعتماد على طرق برية أكثر تكلفة، ما يرهق ميزانية كابل ويقلل من نفوذ الهند.
5. الحصول على مساعدات إنسانية تعتمد طالبان بشكل كبير على المساعدات الخارجية لتلبية احتياجات الداخل، ومنذ أغسطس 2021، حافظت الهند على قناة محدودة من الدعم الإنساني إلى أفغانستان رغم عدم اعترافها الرسمي بحكم طالبان. وتنتهج الهند سياسة "المساعدة دون الاعتراف" بهدف الحفاظ على حضورها الاجتماعي والسياسي في البلاد. وسيحاول متقي في زيارته إقناع نيودلهي بأن مساعداتها تصل مباشرة إلى المواطنين وتُحدث تأثيراً ملموساً. ومن المتوقع أن يسعى وزير خارجية طالبان إلى إقناع الهند بلعب دور أكبر كممول إقليمي رئيسي، في ظل تراجع دعم العديد من الدول والمنظمات الدولية.
قال كبير الباحثين الأميركيين، مايكل كوغلمان، إن الإصرار المتكرر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجوية يُظهر نيته الحقيقية في استرجاع القاعدة.
وكتب مايكل كوغلمان في مقال نشره موقع "فورين بوليسي"، أن السيناريوهات المطروحة أمام الولايات المتحدة في أقصى حالاتها قد تشمل تنفيذ عملية عسكرية محفوفة بالمخاطر للسيطرة على باغرام، أو حتى تدميرها.
وتناول كوغلمان، المتخصص في شؤون جنوب آسيا بمركز "ويلسون" للأبحاث في واشنطن، في مقاله تصريحات ترامب الأخيرة بشأن قاعدة باغرام، قائلاً إن من غير الواضح ما إذا كان تهديده الأخير مجرّد مناورة، أم أنه يعكس نية جدية. لكن تكرار المطالبة بباغرام يعكس اهتماماً حقيقياً من ترامب بهذه القاعدة.
وبحسب المقال، فإن أسوأ السيناريوهات -من احتلال عسكري إلى تدمير القاعدة- قد يؤدي إلى خسائر بشرية بين الأميركيين والأفغان، وعرقلة مفاوضات تبادل الأسرى، فضلاً عن كلفة سياسية محتملة على ترامب نفسه.
وأشار كوغلمان إلى أن ترامب يطرح مطلباً لن تقبل به حركة طالبان مطلقاً، في وقت توجد فيه خيارات سياسية أكثر فاعلية لمعالجة القلق الأميركي الاستراتيجي والأمني في أفغانستان، إلا أنها تبدو مُهمَلة.
وكان ترامب حذر في منشور عبر "تروث سوشيال" نهاية الأسبوع الماضي، من "عواقب وخيمة" إذا لم تسلّم طالبان قاعدة باغرام للولايات المتحدة، وسبق أن تحدث عن هذا الموضوع في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني.
وأكد كوغلمان أن توقيت ترامب وتبريراته وتهديده، جميعها "غير منطقية"، لافتاً إلى أن "طالبان ترفض تماماً وجود أي قوات أجنبية على الأراضي الأفغانية".
ورغم أن الحركة قدّمت تنازلات للولايات المتحدة، مثل إطلاق سراح رهائن أميركيين، فإن ملف باغرام بالنسبة لها "خط أحمر". وكانت طالبان قد رفضت الطلب الأميركي بشكل قاطع يوم الأحد.
ورأى الكاتب أن تهديدات ترامب قد تُقوّض أولويات السياسة الأميركية في أفغانستان، خصوصاً مع الإشارة إلى زيارة آدم بولر، المبعوث الأميركي الخاص بشؤون الرهائن، إلى كابل، برفقة زلمي خليل زاد، المبعوث السابق إلى أفغانستان.
كما تناول كوغلمان تصريحات ترامب التي أشار فيها إلى قرب باغرام من الصين، معتبراً أن إعادة نشر القوات الأميركية هناك بعد أكثر من أربع سنوات قد تُفسَّر في بكين على أنها خطوة استفزازية، ما قد يدفعها للرد.
وأضاف أن الحضور الصيني في أفغانستان لا يزال محدوداً للغاية، بسبب مخاوفها الأمنية من الجماعات الإرهابية.
ويرى كوغلمان أن واشنطن ربما تنظر إلى باغرام كمنصة محتملة لمحاربة تنظيم داعش خراسان، لكن انتشار التنظيم خارج أفغانستان يجعل من التركيز الأميركي على مكافحة الإرهاب في مناطق أخرى خياراً أكثر فاعلية.
وقال إن طالبان قد تقترح على الولايات المتحدة إعادة فتح سفارتها في كابل كوسيلة للرقابة على التهديدات. ورغم أن هذا الاحتمال يبدو مستبعداً حالياً، فإن واشنطن لا تزال تحتفظ بقنوات اتصال مفتوحة مع طالبان، عبر لقاءات دورية في الدوحة وأحياناً في كابل، تتيح لها فرصاً مهمة، مثل مراقبة موارد أفغانستان المعدنية الحيوية، أو إجراء محادثات غير رسمية بين الاستخبارات الأميركية وطالبان حول التهديدات المشتركة لتنظيم داعش خراسان.
حين وصل أحمد الشرع إلى السلطة في سوريا، احتفلت حركة طالبان وأنصارها بهذا الحدث أكثر من أي طرف اخر، إذ رأت في صعوده انتصاراً يُعزز مشروعها في كابل.
غير أن الشرع، ومنذ أيامه الأولى في الحكم، اتخذ موقفاً واضحاً بالنأي عن طالبان ونموذجها في الحكم، وهو موقف أخذ لاحقاً بعداً ملموساً على الساحة الدولية.
ورغم أن كلاً من الرئيس السوري أحمد الشرع وزعيم طالبان هبة الله آخوندزاده قادا في السابق جماعات متشددة، إلا أن المسارين اللذين يسلكانه اليوم مختلفان تماماً، وقد برز هذا التباين سريعاً بعد توليهما السلطة.
فأحمد الشرع، الذي كان معروفاً بتوجهاته المتشددة، ظهر لاحقاً بصورة مختلفة كزعيم يسعى للانفتاح الخارجي، وقطع الصلات مع الجماعات الإرهابية، ليقدّم نموذجاً مُعدّلاً للحكم. في المقابل، واصل هبة الله آخوندزاده التشدد والانغلاق، واحتفظ بعلاقاته مع الميليشيات المتطرفة، ما جعله رمزاً للسلطة المتسلطة والعزلة السياسية.
مسار مختلف لكل زعيم
أحمد الشرع، الرئيس السوري، تولى الحكم في ديسمبر من العام الماضي بعد سقوط نظام بشار الأسد، وتعهد بإجراء انتخابات وصياغة دستور جديد للبلاد. أما هبة الله، فأمسك بزمام السلطة في أغسطس 2021، وأعلن صراحةً أنه لن تُجرى أي انتخابات في ظل حكمه، ثم شرع في فرض قيود صارمة زادت من عزلة البلاد وعمّقت الفقر.
الدبلوماسية والعلاقات الدولية
سارع أحمد الشرع بعد وصوله إلى الحكم إلى توسيع علاقاته الدبلوماسية، فزار السعودية بعد شهرين فقط، ثم تنقل بين تركيا وقطر والإمارات والكويت ومصر وفرنسا وأذربيجان والأردن والولايات المتحدة. وخلال زياراته، ظهر بمظهر عصري وبخطاب منفتح، ليقدّم صورة جديدة للقيادة السورية.
عقد لقاءات رفيعة مع قادة عالميين، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وآخرين. كما شارك في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث التقى بوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، ووجّه رسائل سلام، مؤكداً أن حكومته تركز على إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية والوحدة الوطنية.
وفي تطوّر رمزي بارز، التقى شرع مؤخراً بالرئيس الأميركي في السعودية، ونال إشادة من ترامب، كما التقى بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورُفع علم سوريا الجديد في الأمم المتحدة.
أما ملا هبة الله، فهو شخصية شبه غائبة عن الظهور العام، يتمركز في قندهار ولا يغادرها إلا نادراً. عُرف بتجاهله لمطالب المجتمع الدولي واستمراره في فرض سياسات متشددة، ما حال دون حصول إدارته على أي اعتراف دولي طيلة السنوات الأربع الماضية.
وفي هذا السياق، كتب آدم وينشتاين، نائب رئيس قسم الشرق الأوسط في معهد كوينسي الأميركي، في مقال بمجلة “فورين بوليسي”، أن احتفاء الغرب بحكومة الشرع ونفوره من حكم طالبان يكشف عن حقيقة مرّة، وهي أن “الاعتراف الدولي لا يقوم على الشرعية القانونية أو السيطرة الجغرافية فقط، بل على التاريخ والمظهر والخيارات الاستراتيجية، ومدى أهمية النظام للغرب”.
كانت طالبان تظن أن السيطرة على الجغرافيا كافية لنيل الاعتراف الدولي، لكن السنوات الأربع أثبتت أن الشرعية الدولية لا تُنال من دون شرعية داخلية والتزام فعلي تجاه المجتمع الدولي.
المرأة والمجتمع
أولى الخطوات التي أحدثت فارقاً واضحاً بين أحمد الشرع وطالبان في نظر العالم، كانت مشاركة زوجته في الفعاليات العامة. وهي امرأة مسلمة، محجبة، ومتعلمة، ترافقه في مختلف المناسبات.
كما لم يفرض الشرع، رغم حكمه في مجتمع سوري متنوع، أي قيود تذكر على النساء. قبل أيام فقط، قرع جرس المدارس إيذاناً بعودة أربعة ملايين طالب وطالبة إلى مقاعد الدراسة.
أما ملا هبة الله، فمنذ اليوم الأول لسيطرته، فرض رقابة مشددة على المجتمع، خصوصاً على النساء والفتيات. وقيّد تعليمهن وعملهن، إلى أن تم إقصاؤهن تدريجياً من الحياة العامة. هذه الانتهاكات الصارخة لحقوق المرأة أصبحت عقبة أساسية في وجه نيل حكومته لأي شرعية دولية.
تصورت طالبان أن تجاهل المجتمع الدولي للمرأة قد يُعوّض بتعاون شكلي في ملفات أخرى، لكن عدم الاعتراف بها حتى من قِبل حلفائها المسلمين -باستثناء روسيا- أثبت فشل هذا التصور.
العلاقات مع الجماعات المتطرفة
رفض هبة الله الانصياع للضغوط الدولية وحتى لنصائح بعض شركائه بقطع العلاقات مع الجماعات المتطرفة. ورغم تأكيدات وزرائه بأن الأراضي الأفغانية لا تُستخدم ضد أي دولة، إلا أن الأدلة المتوفرة تشير إلى عكس ذلك.
ففي باكستان، الحليف القديم لطالبان، باتت الحكومة تواجه تصعيداً أمنياً غير مسبوق، بسبب تنامي هجمات “حركة طالبان باكستان” التي تتهم كابل بدعمها وتمويلها. وتشير التقديرات إلى أن الهجمات داخل الأراضي الباكستانية ارتفعت بشكل حاد منذ عودة طالبان إلى الحكم.
كما وفّرت أفغانستان ملاذاً آمناً لجماعات متشددة مثل “القاعدة” و”الحركة الإسلامية الأوزبكية” ومتمردي الإيغور، وفقاً لمصادر أممية.
مؤخراً، صرّح سكرتير مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو بأن أكثر من 23 ألف مقاتل تابعين لجماعات إرهابية دولية ينشطون حالياً في أفغانستان. وفي مقال نشره في صحيفة “راسييسكايا غازيتا”، أشار سيرغي شويغو إلى وجود ما لا يقل عن 20 مجموعة متطرفة على الأرض الأفغانية.
كما أكدت تقارير أممية وجود عدة معسكرات تدريب تابعة للقاعدة، بالإضافة إلى ثلاث قواعد جديدة تم اكتشافها مؤخراً، لتدريب مقاتلي القاعدة وحركة طالبان باكستان.
احتكار السلطة
أعلن أحمد الشرع تشكيل حكومته في أبريل الماضي، وعيّن 23 وزيراً أدّوا اليمين الدستورية في حفل رسمي بالقصر الرئاسي. شملت الحكومة امرأة مسيحية تدعى هند قبوات وزيرة للعمل والشؤون الاجتماعية، كما ضمّت وزراء من الطوائف الدرزية والعلوية والكردية، في خطوة نحو إشراك الجميع، تمهيداً لإجراء الانتخابات وصياغة دستور دائم خلال خمس سنوات.
أما إدارة طالبان، فقد استبعدت النساء والأقليات الدينية والعرقية، وجرى استبدال الدستور بأحكام فردية يصدرها زعيم الحركة. لم تتركز السلطة في يد الحكومة بل حُصرت في شخص هبة الله، الذي استطاع في السنوات الأخيرة إخراس الأصوات المعارضة داخل الحركة، واستبدلهم بمقربين موالين له.
وتمكن كذلك من تقليص نفوذ الجناح البراغماتي داخل طالبان، الذي كان يطالب بالتعامل مع العالم وفتح المدارس للفتيات، ما ساعده على إحكام قبضته أكثر.
حتى في المؤسسة العسكرية، قيّد هبة الله وصول القيادات إلى مخازن السلاح، تحسباً لأي انقلاب محتمل.
إضافة إلى ذلك، عزّز من دور وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي أصبحت ذراعه الأمنية المباشرة في المجتمع. وفي أحد الاجتماعات، وصف الوزير خالد حنفي عناصر الوزارة بأنهم “مختارون من الله لتنفيذ الشريعة”، وقال إن “تطبيق الأحكام الشرعية هو السبب الرئيسي لخلق الإنسان”.
بهذا النهج، يبدو أن حكم ملا هبة الله يسير نحو مزيد من العزلة الدولية، وأزمة شرعية داخلية وخارجية تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.
في نوفمبر 2010، أنزل جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني عبر طائرته "إي إكس 900" من الخليج رجلاً ملثماً قيل إنه المبعوث الخاص للملا عمر، على مدرج مطار ميونيخ في برد الشتاء، وأسكنه في فندق فاخر.
كانت تلك بداية المباحثات السرّية بين حركة طالبان والولايات المتحدة، التي عُرفت لاحقاً بـ"عملية الدوحة". وبنتيجة المحادثات بين طيب آغا والوفد الأميركي افتتحت طالبان مكتبها في قطر، كما أُفرج من معتقل غوانتانامو عن عدد من كبار مسؤوليها مقابل إطلاق الجندي الأميركي الأسير بو بيرغدال.
كانت الاستخبارات الألمانية استضافت عام 2005 في زيورخ ممثلين اثنين لطالبان في فندق لإجراء محادثات، لكنها لم تُسفر عن نتائج تُذكر، لأن الملا محمد عمر كان يُظهِر ابتعاده عن "القاعدة". وفي عام 2009 أبلغ أفغاني مقيم في ألمانيا سلطات البلاد بأنه يستطيع، إذا أرادت برلين محادثات حقيقية، أن يصلها بـ"الرجل الأساسي" لدى طالبان. كان ذلك الرجل طيب آغا الذي أُقصي من المسار بعد وفاة الملا عمر.
مثّلت "عملية الدوحة" -من جنيف إلى مكة، وإسلام آباد، والمالديف، وطشقند- المحاولة الثانية عشرة لإحلال السلام في أفغانستان؛ لكن بعد توقيع الاتفاق، أعادت طالبان تكرار التاريخ ولم تَفِ بالالتزامات التي قطعتها للمجتمع الدولي وللأفغان في قطر وموسكو وسواهما.
من جنيف إلى الدوحة (1988–2020) شهدت أفغانستان نحو 12 مساراً كبيراً وصغيراً للسلام، لم يضع أيٌّ منها حداً للحرب. في كل مرة طُرحت وساطات دولية وتعهدات بوقف إطلاق النار وصِيَغ لتقاسم السلطة على طاولة الحوار، لكن صوت الحرب ظلّ غالباً على أرض الواقع.
تشي هذه المحاولات الفاشلة المتعاقبة، على امتداد 37 عاماً من تاريخ الحرب الأفغانية، بمسألة واحدة: فالحرب الأفغانية دارت على محاور الضغوط الخارجية، وتنازع القيادات على السلطة، وعمق انعدام الثقة. لذلك بقيت اتفاقات السلام حبراً على ورق، ولم تُحدث أثراً في واقع حياة الناس ولا في مسار ترسيخ سلام دائم.
إن تكرار الفشل عشر مرات في محاولات السلام خلال ما يقارب أربعة عقود أمر نادر في التاريخ البشري، غير أن مفاوضات السلام الأفغانية تشترك في عوامل التعثّر ذاتها عبر جميع المسارات.
جنيف.. انسحبت القوات السوفياتية
في 27 ديسمبر 1979 غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان ونصّب "ببرك كارمل" في الحكم. وبدأ مقاومو "المجاهدين" مواجهةً قاسية ومستمرة، حظيت بدعم واسع من الولايات المتحدة وباكستان والسعودية ودول عربية أخرى. أصبحت الحرب مُكلِفة للسوفييت، ومع ضعف الاقتصاد والضغط الدولي وشدة المقاومة الأفغانية، قرر غورباتشوف الانسحاب. وفي 14 أبريل 1988، وُقِّع "اتفاق جنيف" برعاية الأمم المتحدة بين أفغانستان وباكستان والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وركّز على انسحاب القوات السوفياتية، وامتناع باكستان عن التدخل في شؤون السلطات الأفغانية، وعودة اللاجئين. وبموجب الاتفاق:
يجب أن تنسحب القوات السوفياتية من أفغانستان بحلول 15 فبراير 1989.
التزمت الولايات المتحدة وباكستان بوقف دعم "المجاهدين" (وهو ما لم يُطبَّق عملياً).
يجب على أفغانستان وباكستان عدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضهما بعضاً.
ينبغي تهيئة التسهيلات اللازمة لعودة اللاجئين.
انسحبت القوات السوفييتية بموجب الاتفاق، لكن حكومة نجيب الله استمرت حتى ربيع 1992، لأن الاتحاد السوفييتي قدّمت لها دعماً اقتصادياً وعسكرياً واسعاً.
تولى نجيب الله السلطة في 4 مايو 1986 رئيساً لأفغانستان وزعيماً للحزب بعد استقالة ببرك كارمل. دعمه الاتحاد السوفييتي لأنه كان رئيس جهاز الاستخبارات المعروف بـ"خاد"، ويتمتع بنفوذ واسع، وكان أصغر سناً نسبياً، حازماً، وقادراً على التفاوض. قُدِّم وجهاً جديداً للسلم والمصالحة بعدما أضعفت الخلافات الحزبية وغياب الشرعية سلفه ببرك كارمل.
ورغم معارضة شديدة داخل الحزب من مقرّبي كارمل، مثل فريد مزدك ونبي عظيمي ومحمود بريالي وآخرين، أعلن نجيب الله في 15 يناير 1987 في مجلس "لويا جيرغا" التقليدي -الذي يجمع وجهاء وشيوخ القبائل في حوار وطني- برنامج "المصالحة الوطنية". وتمثلت أبرز نقاطه في عرض وقف إطلاق النار، وإعلان عفو عام، والسماح بنشاط الأحزاب السياسية، وخلق عملية سياسية مشتركة.
حملت هذه العملية مزايا عدة، إذ كانت أول إعلان صريح على لسان الرئيس للحوار والمصالحة. فُتح باب جديد للتنوع السياسي واستيعاب المعارضين، ومنحت الناس أملاً ببديل في ظروف إنهاكهم من طول الحرب، وتمكّن نجيب الله عبر مسار المحادثات من الحفاظ على السلطة لسنوات بعد انسحاب السوفييت.
في المقابل، أعاقت الانقسامات العميقة داخل جناحي الحزب -خلق، وبرتشم "العَلَم"- تنفيذ العملية. رفض "المجاهدون" "خصوصاً المجموعات المتأثرة بباكستان" البرنامج، واعتبروه "خدعة من الشيوعيين". عاد الكثير من الأفغان وقادة "المجاهدين" إلى البلاد، لكن لم تكن هناك آلية عملية للسلام وبقي الأمر في حدود الشعارات. كان انعدام الثقة سبباً أساسياً، فلم يثق "المجاهدون" ولا الناس به بالكامل. كما أن الاتحاد السوفييتي كان قد خسر الحرب، فلم يحظَ برنامج نجيب الله بدعم دولي كامل. وداخل الجيش، مهّدت تمردات بعض الجنرالات لزيادة ضعف النظام.
وعلى الرغم من "اتفاقات جنيف"، واصلت الولايات المتحدة بعد الانسحاب تقديم الدعم لـ"المجاهدين"، فاشتدت الحرب، وتراجعت قدرات حكومة الدكتور نجيب الله تدريجياً مع تقلص الموارد حتى شارفت الإفلاس. وقد قادت شدة القتال، واستمرار الدعم الإقليمي والدولي للمجاهدين، وخلافات الحزب الشيوعي، وانعدام الثقة ببرنامج المصالحة، واستعجال المجتمع الدولي، إلى اقتراب الحكومة من السقوط، فاضطر نجيب الله إلى الاستقالة، وتعطّل برنامج المصالحة.
كان برنامج المصالحة الوطنية في أفغانستان مبادرة تاريخية للسلام، إذ أُطلق لأول مرة في البلاد، لكنه فشل بسبب الانقسامات الداخلية، وغياب الثقة الدولية، وتصلب المعارضين، والتدخل المباشر لباكستان، واستمرار الدعم الدولي للحرب. ومع ذلك تُعدّ هذه المرحلة محطة مهمة في تاريخ السلام الأفغاني، وتُذكر حتى اليوم بوصفها "فرصة ضائعة".
نجيب الله يستقيل و"المجاهدون" لا يتوافقون على السلطة
في 16 أبريل 1992، وبعد استقالة الدكتور نجيب الله، نشأ فراغ سياسي كبير في كابل وتلاشت "الدولة العميقة". سعت الأمم المتحدة إلى دفع عملية سلام عبر حكومة انتقالية، لكن قادة المجاهدين رأى كلٌّ منهم نفسه الأحق بالسلطة.
ضغطت قوات الجنرال عبد الرشيد دوستم على كابل من الشمال. وفي الشرق، دفع الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار قواته نحو العاصمة. ودخل حزب الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني، تحت إمرة أحمد شاه مسعود، من جهة بنجشير. كما طالب "حزب الوحدة بزعامة عبد العلي مزاري بحصة في السلطة في كابل.
في أواخر أبريل 1992 دخل المجاهدون العاصمة وأُعلن تشكيل "حكومة انتقالية للمجاهدين"، وعُيّن برهان الدين رباني رئيساً. لكن المساعدات الأميركية توقفت، وسادت فوضى شاملة في كابل.
طالب حكمتيار برئاسة الوزراء ورفض سلطة رباني، فانطلقت الحرب في العاصمة. كما انخرطت قوات حزب الوحدة في الغرب في معارك ضارية مع قوات الجمعية الإسلامية. وبعد أن كان دوستم حليفاً لرباني، تحوّل إلى خصم، فازداد المشهد القتالي تعقيداً.
عملية السلام في إسلام آباد
كانت الحرب في كابل على السلطة، لكن مفاوضات السلام على تقاسمها كانت تجري أيضاً. في مارس 1993 بدأت محادثات مباشرة، وعُقدت الجلسة الأولى في إسلام آباد برئاسة الرئيس الباكستاني غلام إسحاق خان.
وُلدت محادثات قادة "المجاهدين" برعاية باكستان تحت ضغط خارجي. وأسفرت عن توقيع "اتفاق إسلام آباد" الذي نص على تقاسم السلطة، فبقي برهان الدين رباني رئيساً للدولة، وعُيّن قلب الدين حكمتيار رئيساً للوزراء. كما وُعد بالدعوة إلى "جيرغا" -الاجتماع القبلي الوطني- لتشكيل حكومة مشتركة وصوغ دستور.
وخلال المحادثات خفّ القتال ولم يتوقف كلياً.
لكن الاتفاق انهار سريعاً. فقد أدت الخلافات العميقة وانعدام الثقة ومساعي احتكار السلطة إلى عودة الحرب. وباتت كابل مرة أخرى هدفاً للصواريخ والقصف، وخبت آمال السلام.
اتفاق السلام في مكة
بعد فشل "اتفاق إسلام آباد"، انطلقت أواخر 1993 مفاوضات مكة امتداداً لذلك الاتفاق، برعاية المملكة العربية السعودية. كان الهدف إنهاء الحروب الداخلية في كابل، وتقاسم السلطة، وتشكيل حكومة مشتركة. شارك في الاجتماع رئيس أفغانستان آنذاك برهان الدين رباني، وقلب الدين حكمتيار، وعبد العلي مزاري، وغيرهم من القادة.
أُنجزت تفاهمات مؤقتة مرتبطة بتعهدات "إسلام آباد"، وأقسم جميع القادة في مكة على المصحف بتنفيذ الاتفاق ووقف القتال، لكن انعدام الثقة بين القادة الجهاديين والسعي إلى احتكار السلطة حالا دون التنفيذ.
محاولات داخلية للسلام في جلال آباد
عقب فشل مفاوضات إسلام آباد ومكة، بدأت في مايو 1993، بطلب من باكستان، عملية تفاوض جديدة في جلال آباد برئاسة الحاج قدير.
بدأت هذه المفاوضات باجتماعات لممثلي القادة الجهاديين، ثم بمشاركتهم المباشرة. هدفها كان إنهاء الحروب الداخلية في كابل، والتوافق على تقاسم السلطة، وتشكيل حكومة مشتركة.
عُقدت ثلاث جولات بين قادة المجاهدين، شارك فيها برهان الدين رباني، وقلب الدين حكمتيار، وعبد العلي مزاري، وممثلون آخرون. ثم جلس رباني وحكمتيار ومزاري وعبد رب الرسول سياف، وأطراف القتال الأخرى، إلى طاولة التفاوض في القصر الملكي بجلال آباد.
وفي الوقت نفسه، وبطلب من الحاج قدير، خرج طلاب جامعة ننغرهار في "طوق بشري" حول القصر، مطالبين القادة بإنهاء القتال. وبعد أيام بلا نتيجة، غادر عبد رب الرسول سياف إلى كابل بحجة أن طرفاً مهماً في القتال هو أحمد شاه مسعود ويجب إشراكه في المفاوضات. واحتجّ برهان الدين رباني بمرض في الأذن، رغم إصرار الحاج قدير على أن الدكتور إسحاق خاورين يعالجه في جلال آباد، لكنه غادر المدينة أيضاً. وبعد سبعة أيام، خرجت بعض التفاهمات القصيرة، غير أن انسحاب أطراف القتال من المباحثات دلّ على أنها قد تبقى في حدود "الضجيج الإعلامي".
وبعد هذه المفاوضات عاد أسامة بن لادن من السودان إلى أفغانستان، واستقر مع رفاقه وعائلته في "لونا لیوه" قرب جلال آباد.
مفاوضات "ماهيبر" الأولى
عقب فشل مفاوضات جلال آباد، التأمت عام 1993 مفاوضات "ماهيبر" بين برهان الدين رباني، وأحمد شاه مسعود، وقلب الدين حكمتيار، وعبد الرشيد دوستم. وخرجت بنتيجة نسبية: منح معسكر قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء إضافة إلى عدد من الوزارات، على أن يتجه إلى كابل لبدء مهامه رئيساً للوزراء.
نُصّ في القرار على أن يدخل الحزب الإسلامي إلى كابل بعد نزع السلاح. لكن حكمتيار بقي في "تشهار آسياب"، وسمّى عبد الصبور فريد رئيساً للوزراء. أدى فريد اليمين وبدأ عمله. غير أن الاتفاق الأول لـ"ماهيبر" انهار بعد 21 يوماً. وبعد فترة قصيرة، توجّه فريد في زيارة رسمية إلى جلال آباد، ثم إلى باكستان، فمنع من العودة. سقط الاتفاق بسبب شراكة قوة غير متوازنة، وضغط خارجي، وفقدان الثقة. وفي عام 1994 أعلنت طالبان لأول مرة ظهورها في قندهار.
مفاوضات ميدان وردك
في عام 1995، وبعد سقوط غزني، دخلت طالبان بسهولة إلى ولاية ميدان وردك. وكانت معظم هجماتها مُوجَّهة نحو مقاتلي الحزب الإسلامي، مما دفع وزير دفاع حكومة رباني أحمد شاه مسعود إلى بدء مفاوضات مع طالبان في ميدان وردك لفتح جبهة مشتركة.
تركزت المفاوضات على تقاسم السلطة ونمط الحكم. غير أن طالبان طالبت عملياً بتسليم كل شيء، فلم تُسفِر عن نتيجة. وفي تلك الأثناء، توجّه زعيم حزب الوحدة الإسلامية، عبد العلي مزاري، جنوب كابل للتفاوض مع طالبان، فقُتل قرب غزني. واتضح لاحقاً أن طالبان ليست معنية بأي مفاوضات، فتُرك المجال لجولة جديدة بين الجمعية الإسلامية والحزب الإسلامي.
اتفاق "ماهيبر" الثاني
بعد استيلاء طالبان على قندهار، قال برهان الدين رباني في مقابلة مع الصحافي عطاء محمد قسمت، في إذاعة وتلفزيون ننغرهار الوطنية إن "طالبان حمائم سلام، وقد نهضوا ضد أمراء الحرب، وسنصل إلى تفاهم معهم". غير أن طالبان، وبعد ثلاثة أسابيع، حين بلغوا هرات، شنّوا هجمات على قوات الجمعية الإسلامية بقيادة إسماعيل خان. وصار الحزب والجمعية معاً في نظر طالبان خصمين.
أدّت هجمات طالبان على الحزب الإسلامي والجمعية الإسلامية إلى جلوس الطرفين مجدداً عام 1996، فانطلقت الجولة الثانية من مفاوضات "ماهيبر". واتُّفق من جديد على أن يتولى قلب الدين حكمتيار رئاسة الوزراء، وعبد الهادي أرغنديوال وزارة المالية، ووحيد الله سباوون وزارة الدفاع، والمهندس قطب الدين هلال وزارة الداخلية.
بعد يومين من اتفاق "ماهيبر 2"، أدى حكمتيار اليمين في كابل برفقة رفاقه، لكن طالبان دخلت العاصمة بعد مدة وجيزة، فتوقف تنفيذ الاتفاق. وكان التأخير سبباً في تعثره، فلو نُفّذ "ماهيبر 1" لربما لم يبلغ الطرفان الأزمة اللاحقة.
الوجهة تعود إلى إسلام آباد
من 1996 حتى 1998 لم تُعقد مفاوضات سلام في أفغانستان. وفي عام 1998، بذل بيل ريتشاردسون، ممثل الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، جهود وساطة، وشجّع طالبان على حضور محادثات السلام.
زار ريتشاردسون في أبريل 1998 كابل وإسلام آباد. وأجرى لقاءات منفصلة مع طالبان وخصومهم ومسؤولين في المنطقة. وتمحور الحديث حول إنهاء الحرب الأهلية، والاتفاق على هدنة، وبدء عملية سياسية للسلام.
أكّد ريتشاردسون أنه إذا أرادت طالبان شرعية دولية، ودعماً خارجياً، ونفاذاً إلى المساعدات، فعليها الجلوس إلى طاولة الحوار. وللمرة الأولى، وتحت ضغطه، اقتنع قادة طالبان بالجلوس إلى المفاوضات. ترأس وكيل أحمد متوكل وفد طالبان، وترأس يونس قانوني وفد "الجبهة المتحدة" -التي تشكّلت من الأحزاب الجهادية-، وانطلقت المفاوضات في إسلام آباد.
لعبت باكستان دوراً مهماً في تسهيل هذه الزيارة والمساعدة في إقناع طالبان. ورغم إطلاق الوعود ببدء المحادثات، فإن انعدام الثقة وعدم تنفيذ التعهدات أبقيا الحرب مشتعلة.
كانت هذه المفاوضات خبراً مهماً في الإعلام، لكنها ظلّت حتى عام 2000 مجرد شعارات.
عشق آباد تستضيف المحادثات
بعد محادثات إسلام آباد، عُقدت سنة 2000 في عاصمة تركمانستان عشق آباد مفاوضات بين رئيس الاستخبارات الباكستانية السابق نصير الله بابر وفريق أحمد شاه مسعود. وتعهد بابر، باسم طالبان، بجولة ثانية في عشق آباد، وبالفعل انعقدت في ديسمبر من العام نفسه بين الطرفين.
لم تُسفر هذه المفاوضات إلا عن بيان صحافي، واستمرت الحرب حتى تدخل المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة. كانت مفاوضات نشأت بضغط أميركي–باكستاني، وانتهت إلى لا شيء.
يتكرر "اتفاق جنيف" في هيئة "اتفاق الدوحة"
وُقِّع "اتفاق الدوحة" بين طالبان والولايات المتحدة في 29 فبراير 2020 في قطر. كان حصيلة مسار بدأته ألمانيا عام 2009 عبر استخباراتها في ميونيخ. وفي الوقت نفسه عُقدت لقاءات متناثرة بين الحكومة الأفغانية وجماعات مسلحة في المالديف والسعودية، من دون نتائج تُذكر.
منذ عام 2001، وبدعم قوات دولية تقودها الولايات المتحدة، خاضت الجمهورية الأفغانية حرباً مع طالبان. وهاجمت الولايات المتحدة أفغانستان بذريعة القضاء على "القاعدة"، فأسقطت نظام طالبان وشكّلت حكومة جديدة. لكن طالبان واصلوا القتال ضد الحكومة والقوات الدولية على مدى عشرين عاماً.
هذه المرة، تلقّت طالبان دعماً غير مباشر من باكستان وإيران وروسيا والصين، ما حافظ على سخونة الحرب في أفغانستان.
أبرز بنود "اتفاق الدوحة":
تعهّد الولايات المتحدة بسحب جميع قواتها من أفغانستان بحلول 31 أغسطس 2021.
تعهد طالبان بعدم الاحتفاظ بعلاقات مع تنظيم "القاعدة" وسائر التنظيمات الإرهابية.
إجراء محادثات سلام بين الحكومة الأفغانية وطالبان.
الإفراج عن أسرى طالبان وشطب أسماء قادتهم من القوائم السوداء.
ورغم توقيع الاتفاق على أنه طريق إلى السلام، فإن تراجع المساعدات الدولية، وشدة الحرب، وخروج شركات الإسناد العسكري، أضعفت الدولة. ومع تقليص الولايات المتحدة دعمها للجمهورية، خرج المتعاقدون العسكريون، وسقط سلاح الجو، وتفكك الجيش الوطني، فدخلت طالبان كابل في 15 أغسطس 2021، وسقطت حكومة الدكتور محمد أشرف غني.
شهدت أفغانستان خلال العقود الأربعة الأخيرة 12 مساراً تفاوضياً كبيراً وصغيراً. لكنها جميعاً فشلت، ولعوامل فشلها تقارب واضح وملموس. فجميع الاتفاقات أُبرمت تحت ضغط أو وساطة قوى خارجية (الولايات المتحدة، باكستان، إيران، روسيا، السعودية، الأمم المتحدة وغيرها)، لا بإرادة أفغانية خالصة. وكانت كلها محاولات لتسويات على السلطة، ولم تكن الأجندة الأساسية سلاماً يلبّي حاجات الناس وحقوقهم ويضع الضحايا -أي الشعب- في الصدارة.
في كل اتفاق طُرحت هدَن مؤقتة وتقاسم للسلطة وتشكيل حكومات مشتركة، لكن أياً منها لم يُنفَّذ. نظر كل طرف إلى الآخر بوصفه "ندّاً"، ولم يكن هناك أساس للثقة. كانت الوعود على طاولة الحوار كثيرة، فيما تواصلت الحرب على الأرض.
عوامل فشل الاتفاقات والمفاوضات
السعي إلى السلطة: كان قادة كل الأطراف يسعون إلى احتكار الحكم. كانت المفاوضات منصات لتقاسم النفوذ لا لتأسيس سلام مجتمعي.
الأجندات الخارجية: وُقّعت الاتفاقات بطلب دول أخرى ومن دون ضمانات تنفيذ. ولذلك لم تتوقف الحرب أثناء التفاوض إلا نادراً (باستثناء هدنة الأيام الثلاثة في عهد الرئيس أشرف غني).
انعدام الثقة: لم يُبدِ القادة احتراماً متبادلاً، وحين أُديت الأيمان، بقيت الأقوال والتعهدات بلا قيمة عملية، لأن الاتفاقات افتقرت إلى آليات تنفيذ.
عدم الاستقرار: الحرب والاقتصاد الهشّ والتمردات ووقف المساعدات شكّلت دائماً عوائق أمام الاتفاقات وأضعفت إمكان توفير ضمانات قوية.
تغييب الشعب: ظلّت محادثات السلام بين القادة حصراً، ولم تُمنَح إرادة الشعب -وهو الضحية الأولى للحرب- حق المشاركة في أي مسار.
أُصيبَت جميع اتفاقات السلام في أفغانستان -من جنيف إلى الدوحة- بالمشكلة نفسها: انعدام الثقة بين الأفغان، وضغوط الخارج، والسعي إلى احتكار السلطة. لذا بقيت التفاهمات ناقصة واستمرت الحرب.
صيغ اتفاقا جنيف والدوحة لانسحاب القوات الأجنبية، لكنهما لم يقدّما حلولاً مستدامة لسلام أفغانستان واستقرارها. ومهّدا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لسقوط حكومات، وأدخلا البلاد في أزمة جديدة.
الخلاصة الأساسية لتقييم الاتفاقين أن انسحاب القوات الأجنبية كان ينبغي أن يُقرَن بضمانات دولية، وتدرّجٍ سلمي، واستقرار سياسي، وتوافق وطني واسع. إن غياب هذه العناصر أعاد أفغانستان بعد عام 2021 إلى سلطة جماعة لم تُنجز "تكامل السلام"، ولم تُوفِّر الأمن -لا سيما حقوق الإنسان والأمن النفسي- ولا العيش السلمي، ولا حرية الفكر والنشاط السياسي والتعبير، ولا حواراً مجتمعياً يضمن التعايش. وهذه كلها عناصر للسلام والأمن، ومن دونها لا يكتمل المسار، وتبقى البلاد في كل لحظة مهددة بالانزلاق من جديد إلى ماضي الصراعات المرير.