شنّت القوات المسلحة الباكستانية غارات جوية (رغم أن الجيش الباكستاني لم يعترف بذلك بشكل قاطع حتى الآن) في مساء العاشر من أكتوبر 2025 على عدة نقاط لا تقل عن ثلاث ولايات بينها العاصمة الأفغانية كابل، ما أثار ردود فعل متباينة. وأكّد المتحدث باسم طالبان بعد نحو ساعتين من سماع دوي الانفجارات في مدينة كابل في تغريدة مختصرة وقوع الانفجارات، واصفاً الموضوع بأنه ليس ذا أهمية تستدعي القلق. كما أصدرت وزارة الدفاع لدى الحركة، بعد تأخير يقارب 15 ساعة، بياناً موجزاً اعتبرت فيه الهجوم عملاً للقوات الجوية الباكستانية وحذّرت من تبعاته.
أبدى سياسيون أفغان سابقون أيضاً ردود فعل مختلفة؛ إذ أدان الرئيس السابق حامد كرزي الحادث، واعتبر مستشار الأمن الوطني السابق، رنغين دادفر سبنتا، أن ذلك يعدّ اعتداءً على أفغانستان، مشدداً على أن الموقف المناوئ لطالبان وحب الوطن قضيتان منفصلتان، وأن ما قامت به القوات الجوية الباكستانية هو اعتداء واضح على أفغانستان. ومنذ الدقائق الأولى، وبالرغم من أجواء الخوف والترقّب السائدين في ظل حكم طالبان، كتب سكان كابل عن سماعهم عدة انفجارات تحوّلت ومرور طائرات حربية في أجواء المدينة. وقد وجّه كثيرون، من دون انتظار موقف رسمي من طالبان أو اعتراف ضمني من الجيش الباكستاني، أصابع الاتهام نحو باكستان. في هذه الإحاطة المختصرة سأحاول تناول خلفية هذا الهجوم واستعراض السيناريوهات المحتملة من منظور أمني.
عزّزت طالبان وجودها سريعاً أمام القوى الجهادية الأخرى بدخولها من الأراضي الباكستانية إلى ولاية قندهار عام 1994. ولقيت الحركة في حكومتها الأولى دعماً ملحوظاً من عناصر ودوائر في باكستان، وهو ما أقرّ به وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف ووصفه بأنه «عمل قذر لأميركا»، وكانت باكستان واحدة من ثلاث دول اعترفت بطالبان خلال فترتها الأولى.
فرّ عناصر الحركة بعد هزيمتهم أمام قوات تحالف الشمال وحلف الناتو عام 2001 إلى مناطق القبائل في باكستان. ورغم اعتقال عدد من قادة طالبان، منهم ملا برادر في باكستان، فقد استخدمت الحركة خلال عقدين من فترة الحكومة الأفغانية السابقة أرض باكستان، ولا سيما مناطق إقليم خيبر بختونخوا وبلوشستان، ملاذاً آمناً، فتلقّت منها دعماً مالياً وبشرياً وتدريبياً وانطلقت منها لتقاتل ضد الشعب والحكومة الشرعية في أفغانستان.
استناداً إلى أدلة ووقائع جمةّ، كان الاعتقاد السائد أن طالبان هي حركة بالوكالة وعميلة لباكستان ضد الشعب الأفغاني، في وقت كانت باكستان نفسها داعماً رسمياً للحملة العالمية ضد الإرهاب، وتلعب دوراً مزدوجاً عبر إتاحة قواعد عسكرية ومسارات عبور لوجستية لقوات الناتو من خلال موانئها تجاه أفغانستان. وطالما أثارت هذه السياسة الملتبسة قلق الحكومات الأفغانية مطالبة باكستان بوقف إيواء عناصر طالبان، لكن الأمر استمر حتى استعادة طالبان للسلطة.
أثار صعود طالبان في أفغانستان فرحة لدى بعض السياسيين، لا سيما حزب تحريك إنصاف بزعامة رئيس الوزراء السابق عمران خان، ودوائر في المؤسسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية الباكستانية. زار الجنرال فيض حميد، رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية، كابل ولعب دور "المدرّب" في تشكيل ما وصفته الدوائر بتوزيع المناصب في ما يسمى حكومة طالبان، وكانت تغريدة عن احتساء قهوته في فندق "سيرينا كابل" قد أثارت ضجة. لكن تلك الفرحة لم تطل أمدها في أوساط السياسة والأمن في باكستان، على نحو لم يكن كما وصفه السيد حميد "ممتعاً".
في الأيام التي كان فيها فيض حميد منشغلاً بالاحتفال الظاهري بانتصار طالبان في كابل، نُقلت آلاف قطع السلاح وملايين الطلقات المتبقية من القوات الحكومية والأجنبية، في الغالب من ولايات الجنوب والشرق الأفغاني، إلى داخل باكستان عبر طالبان وشريكهم البارز، حركة طالبان باكستان (TTP). وصلت هذه الأسلحة والذخيرة في الأسابيع الأولى لصعود طالبان إلى يد عناصر الحركة الباكستانية وجيش تحرير بلوشستان، مما ضاعف قدرات تلك الجماعات بأبعاد مختلفة.
تشير إحصاءات مراكز الأبحاث الإقليمية، لا سيما في باكستان، إلى أن صعود طالبان تزامن مع ارتفاع غير مسبوق في هجمات الجماعات الإرهابية داخل باكستان. ومع مرور كل يوم من حكم طالبان في أفغانستان كانت الحقائق الميدانية المؤكدة لخطر تهديدات أمنية داخل باكستان تتزايد، حتى أن أصوات أسلحة M4 وM16 الأميركية وعمليات السيارات المفخخة لحركة طالبان باكستان جعلت الأجهزة الأمنية الباكستانية تدرك أن ثمار البذرة المرة التي زرعتها قد أتت آكلها، لكن هذه الإدراك جاء متأخراً جداً.
كرر قادة باكستان مراراً قلقهم من التهديدات الإرهابية القادمة من أفغانستان متوقعين أن تتعامل طالبان الأفغانية بجدية مع هذه المخاوف وتتخذ إجراءات عملية، لكنّ ذلك لم يحدث؛ بل إن طالبان فرشّت السجّاد الأحمر لقيادات حركة طالبان باكستان وجيش تحرير بلوشستان، وأعدّت لهم ضيافات فاخرة في كابل وولايات أخرى. وبجانب تنظيمات إرهابية أخرى مثل القاعدة وجيش العدل وأنصار الله وحركة تركستان الشرقية والتحرير الإسلامي الأوزبكي، حازوا على وصول غير مقيد إلى مرافق النظام وحتى شُيّدت لهم مجمعات سكنية عصرية في نقاط متفرقة من أفغانستان.
تكرّرت مطالبات باكستان بلا جدوى، وردّت طالبان بإنكار وجود هذه الجماعات واعتبرته مسألة داخلية باكستانية، وكما يقال في المثل الدارج بين الأفغان: "أمسك مالك ولا تتهم جارَك بالسرقة". ومع وجود تقارير موثوقة عن وجود فصائل إقليمية ودولية، بما فيها حركة طالبان باكستان، في أفغانستان، استمرت طالبان الأفغانية في النفي، ولم تعترف حتى بوجود أو مقتل أيمن الظواهري. لكن الحقيقة أن هذه الجماعات متواجدة على نحو واسع في أفغانستان وتزداد قوتها يومياً لتشكّل تهديداً إقليمياً ودولياً.
أدّت تكرار مطالب باكستان وردود طالبان السلبية إلى قيام باكستان مرات عدة باستهداف عناصر حركة طالبان باكستان داخل أراضي أفغانستان بقصف جوي، وكان رد طالبان الأفغانية سابقاً مقتصراً على الإدانة والادعاء بوقوع ضحايا مدنيين. وآخر هذه الحوادث كان في ليلة العاشر من أكتوبر الجاري حين سمع سكان كابل دويّ انفجارات عنيفة.
نشر أهل كابل في تلك الليلة مئات الرسائل على الشبكات الاجتماعية تتحدث عن أصوات الانفجارات في أنحاء المدينة، لكن طالبان ظلت صامتة حتى بعد ساعتين حين أكّد ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم الحركة، في منشور على منصة "إكس" وقوع انفجارات وادّعى أن "كل شيء على ما يرام وبخير، ولم تحدث أي مشكلة". حاولت طالبان كعادتها طمس الموضوع بالكتمان والكذب، لكن شدة الانفجارات حالت دون ذلك.
أصدرت وزارة دفاع طالبان بيانها بعد نحو 15 ساعة لتقول إن القوات الجوية الباكستانية اخترقت الأجواء فوق كابل وأنها تندد بذلك. ومع ذلك، وبحسب معلومات متضاربة، فقد استُهدفت مواقع في كابل وكنر وبكتيا، وانفجرت في سماء كابل قنابل صوتية كبيرة. وربما كانت وظيفة تلك القنابل الصوتية التغطية على قنابل أكثر حساسية أُطلقت على أهداف مهمة أخرى.
بعد ليلتين، في 12 أكتوبر 2025، نشرت قوات طالبان عبر فيديوهات وصور ادّعت فيها أنها شنت هجمات على نقاط على امتداد خط ديورند/الحدود بين البلدين، واستولت على عدد من نقاط حراسة باكستانية وألحقت بها خسائر. وفي المقابل أكدّت باكستان وقوع اشتباكات وأنها استولت على عدة نقاط تابعة لطالبان وأسفرت عن قتلى كثيرين بينهم. وعلى الرغم من أن الأدلة المنشورة من كل طرف تشير إلى معارك مسلحة، فإن غياب وصول وسائل إعلام مستقلة حال حتى الآن دون تأكيد مزاعم أي من الطرفين من جهة محايدة.
وفي منتصف تلك الليلة نفسها، زعمت وزارة دفاع طالبان أن عملية الانتقام ضد القوات الباكستانية انتهت بنجاح. ووصف بعض الأفغان، خصوصاً داعمو طالبان، هذه الخطوة بنوع من الوطنية وحاولوا توظيفها لإكساب الحركة قبولاً شعبياً وشرعية داخلية، وهو ما سعت طالبان لتحقيقه طيلة الأربع سنوات الماضية. أما آخرون فاعتبروها عرضاً مضحكاً لتوجيه الرأي العام وزعموا أن قيادات طالبان على علاقة وثيقة بباكستان ولا تجرؤ على مواجهتها.
من جهة أخرى، لطالما اعتبرت طالبان أعمالها المسلحة خلال العقدين الماضيين "جهاداً" وادّعت أن لها التزاماً شرعياً للرد على "الاعتداء" على أراضي أفغانستان. لكن رداً على هذه الهجمات ظل زعيم طالبان صامتاً واكتفت التصريحات الرسمية بكلمات مثل "الانتقام" أو بالقول إن هناك "دوائر داخل باكستان تريد تشويه العلاقات"، دون إجراءات أكبر. وهنا يطرح السؤال: هل كان تدخل القوات الباكستانية داخل الأراضي الأفغانية اعتداءً؟ وإذا كان الجواب نعم، فلماذا ظل زعيم طالبان صامتاً؟ وإذا لم يكن اعتداءً بل عملية منسقة، فلماذا أطلقت طالبان تلك العروض الهزلية تحت اسم "الانتقام" لاحقاً؟
فما السيناريو التالي؟
يتزايد تعقيد اللعبة السياسية والعسكرية بين باكستان وطالبان يوماً بعد يوم. أقامت طالبان، خصوصاً جناح قندهار، علاقات مقربة مع الهند، وهو ما تُعدّه باكستان تهديداً خطيراً لأمنها القومي. وفي حرب قصيرة بين الهند وباكستان، وعلى نحو مخالف للتوقّعات، أعلنت طالبان حيادها (والحقيقة دعمت الهند). وفي تلك الفترة قام نائب وزير الداخلية للشؤون الأمنية في طالبان، مولوي إبراهيم صدر، برحلة سرية إلى الهند، كما عبَر عدد من عناصر حركة طالبان باكستان وبعض من طالبان الأفغان الحدود إلى باكستان لفتح جبهة جديدة في مناطق خيبر بختونخوا لإشغال القوات الباكستانية. وفي رد سريع جوي، أطلقت القوات الباكستانية النيران على نحو سبعين من هؤلاء أثناء دخولهم باكستان على الخطوط الحدودية بحسب ادعائها، ما أدى إلى القضاء على هذه الجبهة بحسب بيانها.
تزامنت الغارات الجوية الباكستانية أيضاً مع زيارة وزير خارجية طالبان أمیر خان متقي إلى الهند، الزيارة التي رحّبت بها الدوائر الهندية ومهّدت لعقد لقاءات متعددة مع مسؤولين ومؤسسات دينية، منها مدرسة دار العلوم ديوبند المعروفة بترويجها للتشدد الديني.
في مؤتمر صحفي بمقر السفارة الأفغانية في نيودلهي، وبين لوحة كبيرة لصورة بوذا باميان المدمّر خلفه، هدد متقي باكستان قائلاً: "لا تختبروا صبرنا". تلك العبارة، المتكررة مرات عدة، حسّاسة من حيث الزمان والمكان وأظهرت أن الهند استغلت وجود متقي لإعلان موقف سياسي ضد باكستان.
وفي مساء اليوم التالي للقصف على كابل نشر خواجة آصف، وزير الدفاع الباكستاني، عبر منصة إكس منشوراً تصعيدياً اعتبر فيه دخول قوات بلاده إلى أراضي أفغانستان حقاً لها؛ وهو موقف أثار ردة فعل لدى كثير من الأفغان حتى من معارضي طالبان. وفي مؤتمر صحفي في بيشاور بتاريخ 10 أكتوبر، أجاب المتحدث باسم الجيش الباكستاني عن سؤال ما إذا كانت باكستان نفّذت الضربة من عدمها قائلاً من دون اعتراف مباشر: "نحن مستعدون لاتخاذ أي إجراء لحماية شعبنا".
بدت لهجة تصريحات المسؤولين الباكستانيين متشددة ولا توحي بتسوية. وفي الوقت ذاته تحاول طالبان توظيف هذا الوضع لإشعال الحساسيات الوطنية لدى الأفغان وتغطية جرائمها الداخلية.
إلى أين يمكن أن يفضي هذا الصراع؟ هل ما ادّعاه خواجة آصف -أي احتمال دخول القوات الباكستانية إلى أفغانستان- قابل للتنفيذ؟ يبدو أن باكستان لن تقدم على مغامرة لا رجعة فيها إلا في حال أخطأت حساباتها وتجاهلت دروس التاريخ. ومن ناحية أخرى، طالما طالبان في السلطة فالأمل في تقليص التهديدات ومكافحة الإرهاب يُعد أمراً بعيد المنال ووهمياً.
وأعتقد أيضاً أنه بالنظر إلى علاقات باكستان الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن شن غارة جوية على كابل من غير "ضوء أخضر" من البنتاغون والبيت الأبيض يبدو غير مرجّح. ويطرح هذا تساؤلاً مهماً: هل تمهّد هذه الأفعال لخطط دونالد ترامب الرامية إلى "استعادة" مطار باغرام؟ أياً يكن الأمر، لا يمكن للاحتلال الخارجي وحده أن يحلّ قضية أفغانستان وينهي ظلم طالبان؛ ويمكن أن يكون حلاً مؤقتاً على غرار ما حدث عام 2001، لكنه ليس بحلٍّ دائم.
وأرجح أن أنجع الطرق وأدومها لتفكيك سلطة طالبان تبدأ أولاً بتقوية خطاب وطني جاد وصادق يضم طالبان أيضاً؛ وإذا أخفقت هذه المقاربة أو رفضت طالبان المشاركة، فحينها يبرز خيار دعم سياسي وعسكري واستخباراتي للقوى المناوئة لطالبان. ويجب ألا ننسى أن وجود قوات أجنبية -حتى جندي واحد- قد يشرعن سرديات الجماعات المتطرفة مثل طالبان استناداً إلى تفسيرات دينية مغلوطة.
بناءً على ذلك، يمكن قراءة علاقات طالبان وباكستان ضمن ثلاثة سيناريوهات محتملة:
أولاً: قد تُستخدم الضربات الجوية الباكستانية كأداة ضغط تدفع طالبان إلى التفاوض مع إسلام آباد، والمطالبة بتسليم عناصر " حركة طالبان باكستان" وإخراجهم من أفغانستان. لكن تنفيذ هذا المطلب سيكون باهظ الثمن سياسياً وعلى صعيد المصداقية داخل صفوف طالبان.
ثانياً: انطلاق حوار لا نهاية له يستمر معه انعدام الأمن داخل باكستان، وإنْ ربما شهد تراجعاً إحصائياً بسيطاً؛ كما قد تُستخدم سياسة الضغط على اللاجئين الأفغان المقيمين في باكستان وسيلة للضغط على طالبان، في حين أن طالبان لا تعتبر نزوح اللاجئين قضية بل أداة تُفاقم معاناة الشعب الأفغاني داخلياً وتعتبر المطرودين مصدر تمويل عبر وجوب جمع العُشر والزكاة دون تقديم أي مساعدة لهم.
ثالثاً: تمهيد لحشد دعم دولي -وبرعاية تشمل باكستان وبدفع أميركي- للقوى المعارضة لطالبان بهدف إسقاط حكم الحركة مقابل وعدٍ بالقضاء على حركة طالبان باكستان، وهذا السيناريو يبدو أكثر احتمالاً واستدامة من سابقيه.