الحوار في ظل انعدام الثقة.. هل تتوصل طالبان وباكستان إلى المصالحة؟

انتهت مفاوضات طالبان وباكستان التي استمرت أربعة أيام في إسطنبول من دون نتائج ملموسة، وسط تبادل الاتهامات بين الجانبين بعدم امتلاك الإرادة الحقيقية للتوصل إلى اتفاق.
کاتب صحفی

انتهت مفاوضات طالبان وباكستان التي استمرت أربعة أيام في إسطنبول من دون نتائج ملموسة، وسط تبادل الاتهامات بين الجانبين بعدم امتلاك الإرادة الحقيقية للتوصل إلى اتفاق.
ويبدو أن مستوى تمثيل الوفدين لعب دوراً في فشل المحادثات، إذ من المقرر أن تُعقد الجولة الثالثة في 6 نوفمبر الجاري على مستوى رفيع.
الجولة الثانية التي كانت مقررة ليومين امتدت إلى أربعة أيام، لكنها وُصفت بأنها أكثر فشلاً من الجولة الأولى التي جرت في الدوحة، حيث تمكّن الطرفان آنذاك من الاتفاق على وقف القتال وإقرار هدنة مؤقتة وتوقيع تفاهم أولي، بينما لم يتحقق في إسطنبول أي تقدّم، بل ازدادت حدة الخطاب بين الجانبين.
فقد حذّرت باكستان من أنها “ستُسقط طالبان وتعيدهم إلى جبال تورا بورا” إذا تواصلت هجمات المسلحين، فيما شنّ قادة طالبان أعنف هجماتهم الكلامية ضد إسلام آباد.
ومع ذلك، نجحت قطر وتركيا في منع انهيار المحادثات كلياً عبر صياغة بيان مشترك أكّد تمديد الهدنة وفتح الطريق أمام جولة ثالثة.
وتشير تصريحات وزير الدفاع الباكستاني إلى أن تركيا تمثل مصالح إسلام آباد، فيما تتولى قطر الدفاع عن مصالح طالبان.
استياء من مستوى التمثيل
البيان الختامي للجولة الثانية عكس استياء الوسطاء من مستوى الوفود المشاركة، إذ ضمّ الجانبان شخصيات من الصفين الثالث والرابع، ما جعل اتخاذ قرارات حاسمة بشأن القضايا المعقدة أمراً صعباً. واستغرق ممثلو الطرفين ساعات في التشاور مع كابل وإسلام آباد قبل أي خطوة.
أما الجولة الأولى في الدوحة، التي شارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى، فقد أسفرت عن نتائج سريعة، لذا يُتوقع أن تضم الجولة المقبلة وزراء الدفاع أو الخارجية لزيادة فرص التوصل إلى اتفاق.
جوهر الخلاف
يتمحور الخلاف الرئيسي حول وجود ونشاط “حركة طالبان باكستان” داخل الأراضي الأفغانية. وتطالب إسلام آباد طالبان الأفغانية بتقديم ضمانات خطية بعدم استخدام أراضيها في الهجمات ضد باكستان، ووقف نشاط مقاتلي الحركة، ونقلهم من المناطق الحدودية إلى شمال أفغانستان، مع آلية تحقق من الالتزام بهذه التعهدات.
كما تطالب باكستان بأن يُعلن زعيم طالبان الأفغانية، الملا هبة الله آخوندزاده، “حركة طالبان باكستان” تنظيماً إرهابياً، وهو مطلب يُعدّ غير واقعي نظراً للجذور المشتركة بين الجانبين.
من جهتها، تؤكد طالبان أنها لا تسمح باستخدام الأراضي الأفغانية ضد باكستان، لكنها لا تستطيع ضمان وقف كامل للهجمات داخل الأراضي الباكستانية، مشيرة إلى أن تأمين الحدود الممتدة 2600 كيلومتر، ومعظمها مناطق جبلية وغابات، يتطلب موارد بشرية ومالية ضخمة.
ويرى المراقبون أن توقيع اتفاق يُنهي هجمات طالبان الباكستانية أمر غير ممكن، لأن طالبان الأفغانية لا تمتلك الإرادة السياسية ولا السيطرة الكاملة على مقاتلي الحركة، الذين تربطهم علاقات مع أطراف إقليمية عدة.
نقل المسلحين إلى شمال أفغانستان
موضوع آخر في المفاوضات تمثل في نقل المسلحين من الحدود الباكستانية إلى شمال أفغانستان. فقد نقلت طالبان بالفعل جزءاً من مقاتلي الحركة من ولايات كنر وننغرهار وبكتيا وبكتيكا وخوست إلى مناطق شمالية وجنوبية، لكن التقارير تشير إلى أن النقل لم يكتمل، وأن بعض المقاتلين عادوا إلى الحدود.
وتقول إسلام آباد إن طالبان طلبت 35 مليون دولار مقابل تنفيذ عملية النقل، فيما أقرّ المتحدث باسم طالبان بأن تنفيذ الخطة يتطلب تمويلاً كبيراً.
لكن مراقبين يرون أن نقل المقاتلين لا يحل المشكلة، لأنه يغيّر موقعهم لا أهدافهم، كما يثير مخاوف من “تغيير جغرافية الحرب” و”التركيبة السكانية” في بعض المناطق الأفغانية. كما أن اقتراب المسلحين من حدود طاجيكستان وأوزبكستان يثير قلق موسكو ودوشنبه وطشقند ويفتح الباب أمام توترات جديدة.
آفاق المفاوضات
رغم تصاعد التوتر، يرجّح مراقبون أن الجولة الثالثة في إسطنبول قد تسفر عن اتفاق بضغط من تركيا وقطر اللتين تملكان نفوذاً على الطرفين ولا ترغبان بفشل المسار.
ومع ذلك، تُظهر مواقف الجانبين أن التوصل إلى تسوية شاملة ودائمة لا يزال بعيد المنال، إذ بلغت العلاقات بينهما مرحلة الأزمة القصوى، وانعكست في تبادل التصريحات العدائية.
في الأشهر الأخيرة تغيّرت لهجة المسؤولين والإعلام الباكستاني، إذ بدأ بعضهم يهدد بإسقاط طالبان ويؤكد افتقارها للشرعية الشعبية والدستورية. كما تنشط وسائل إعلام مقربة من الجيش وشخصيات سياسية في انتقاد طالبان ودعم معارضيها، في حين يرد إعلاميو طالبان بخطاب حاد ضد باكستان وجيشها مستخدمين مصطلحات مثل “البنجاب” و”الجيش الباكستاني”، مع تمييز واضح بين الحكومة والشعب الباكستاني.
كما بدأ الخطاب الرسمي في إسلام آباد يتغير، إذ تصف وزارة الخارجية حكومة طالبان بأنها “نظام كابل”، في إشارة إلى تصاعد حدة التوتر وانعدام الثقة في جدوى الحوار.
في المقابل، تتهم طالبان باكستان بالسعي لتنفيذ “مشروع خارجي”. وقال المتحدث باسمها، ذبيح الله مجاهد، إن الجيش الباكستاني “يسعى لخلق أزمة تمهّد لعودة القوات الأميركية إلى قاعدة باغرام”، مشككاً في نيات إسلام آباد لتحقيق السلام.
وبينما تبدو مطالب باكستان صعبة أو مستحيلة التنفيذ، وتُعرف طالبان بعدم التزامها بالاتفاقات، فإن استمرار الأزمة بين الجانبين مرجّح.
وفي خضم ذلك، تحاول طالبان توظيف التوتر مع باكستان لتعزيز موقعها الداخلي، إذ تستثمر في الخطاب القومي الأفغاني لاستعادة دعم الشارع، وتروّج إقليمياً لفكرة أن باكستان تعمل لخدمة الأجندة الأميركية في أفغانستان، ما قرّبها سياسياً من روسيا وإيران ودول آسيا الوسطى.
ورغم هذا التقارب، تبقى باكستان لاعباً محورياً متمرّساً في المشهد الأفغاني، وقد أثبتت قدرتها في الماضي على إسقاط حكومات كابل، وإذا أرادت، يمكنها هذه المرة أيضاً أن تضع طالبان أمام تحديات خطيرة.






لقد عانى شعب منطقتنا أجيالًا طويلة من الانقسامات، والحروب، والتدخلات الأجنبية، والوعود المكسورة. ومع ذلك، ورغم هذا التمزق، ما زلنا مرتبطين بشيء أعمق من الحدود السياسية: جغرافيا وتاريخًا وثقافة وحضارة مشتركة تمتد من بلاد الشام إلى القوقاز، ومن الخليج إلى آسيا الوسطى والجنوبية.
نقف اليوم عند مفترق طرق حاسم. بعد عقود من التدخل الخارجي والصراعات الداخلية، باتت الفرصة لبناء مستقبل جديد قائم على إرادتنا وطاقاتنا متاحة. ولكن الأمر مرهون بنا – نحن القادة والمفكرون وشعوب الشرق الأوسط الكبير – لاغتنام هذه اللحظة قبل أن تفوت.
تتوجه حركة فجرستان للتكامل الإقليمي (FRIM) إليكم في هذا المنعطف التاريخي، لتؤكد أن الانقسامات الداخلية والهيمنة الخارجية على مدى قرون أضعفت منطقتنا وجعلتها مجزأة وعديمة الصوت في النظام العالمي. ومع ذلك، فقد بدأت أسس نظام إقليمي جديد تتشكل، وفرصة التحول باتت في متناول اليد.
تم تقديم رؤية المنطقة الحضارية الفجرستانية لأول مرة في كتابي عام 2007، وتوسعت لاحقًا في كتاب فجرستان: حركة إقليمية لتعايش الأمم (2011). تمثل هذه الرؤية نقدًا شاملًا وبديلاً متكاملًا للإيديولوجيات الداخلية الضيقة مثل التطرف الديني والقومية العرقية، وللنماذج الإقليمية المفروضة خارجيًا. فهي ترتكز على التراث الثقافي المشترك والروابط الحضارية كقوة أساسية للتكامل الإقليمي، وتدعو إلى بناء إقليمية حضارية ديمقراطية، تركز على الشعب والهوية المشتركة بدل الانغلاق الإيديولوجي أو التبعية للأطر الخارجية.
ترمز كلمة "فجر" إلى بداية جديدة، بينما تشير كلمة "ستان" إلى الأرض، وتشكل جزءًا من أسماء دول المنطقة مثل أفغانستان، باكستان، قرغيزستان، طاجيكستان، كازاخستان، تركمانستان، وأوزبكستان. وقد بدأت فكرة "فجرستان" كمشروع اتحاد بين هذه الدول، لكنها تطورت اليوم إلى رؤية شاملة لاتحاد حضاري ديمقراطي وتعددي، يعزز تقرير المصير الحضاري، ويدعو إلى تكامل أعمق، وحدود مفتوحة، وحركة حرة للأفراد والبضائع والخدمات.
استندت هذه الرؤية إلى دراسات وتحليلات للتجارب الإقليمية، مثل تفكك الاتحاد السوفييتي الذي مهد لتأسيس منظمة التعاون الاقتصادي (ECO)، وفشل تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، مما دفعها إلى إنشاء منظمة الدول التركية (OTS)، وكذلك انسحاب حلف الناتو من أفغانستان الذي خلق فراغًا وفرصًا جديدة للتعاون الإقليمي، بما في ذلك القمم المشتركة بين مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى.
تمتلك مؤسساتنا الإقليمية اليوم القدرة على دعم هذا الاتحاد الحضاري. فكل من ECO وGCC وOTS يمثل مجتمعًا يضم نحو 700 مليون نسمة، وإجمالي ناتج محلي يفوق 5 تريليونات دولار، مع احتياطيات هائلة من الطاقة ومشروعات استراتيجية مثل TAPI وCASA-1000 والممر الأوسط. ومن خلال توحيد القوانين، وفتح الحدود، ودمج الاقتصادات، يمكن لهذه المؤسسات أن تتحول من تكتلات مجزأة إلى قاعدة صلبة لنظام حضاري جديد.
كما تظهر فرص جديدة للمصالحة في المنطقة. فعملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني أثبتت أن حتى أعمق الجروح القومية يمكن تجاوزها عبر الشمول السياسي. ويمكن أن يُلهم هذا النموذج المجتمعات المقسمة تاريخيًا مثل الأكراد، البلوش، والبشتون للسعي نحو التمثيل ضمن إطار إقليمي مشترك بدل الانفصال. وفي المقابل، يجب أن تفسح الإيديولوجيات الإقصائية مثل القومية العربية أو التركية أو الإيرانية المجال للشمول والتعددية.
لقد غذّت الصراعات الطائفية لعقود والأحلام الإمبراطورية حروبًا مدمرة، لكن اتفاق التطبيع بين إيران والسعودية عام 2023، والتحولات البراغماتية لدى طالبان في أفغانستان وهيئة تحرير الشام في سوريا، أثبتت أن الطائفية يمكن احتواؤها عبر الحوار، وأن التطرف يمكن ضبطه بالواقعية السياسية. هذه الأمثلة تثبت أن الشمول والتعددية ممكنان عندما يختار القادة التعاون بدل المواجهة.
على الصعيد الخارجي، يشهد العالم تحولات تصب في صالحنا، حيث يتجه الغرب نحو منافسة استراتيجية مع الصين، مبتعدًا عن عقود من الحروب والتدخل العسكري في الشرق الأوسط، ومركزًا على الدبلوماسية الاقتصادية والتطبيع والسلام. وقد ساهمت هذه التحولات في خلق فرص نادرة للمنطقة، من بينها الاعتراف بفلسطين ومبادرات السلام الإقليمية، واستثمارات الغرب في ممرات الطاقة والتكنولوجيا في الخليج وآسيا الوسطى.
إن الشرق الأوسط الكبير هو المنطقة الوحيدة في آسيا التي لا تمتلك تكتلًا إقليميًا متماسكًا. ومن خلال تأسيس تكتلنا الخاص، يمكننا تحقيق التكافؤ مع بقية المناطق الآسيوية، وموازنة النفوذ، وبناء علاقات متوازنة مع القوى العالمية، على أساس الكرامة والسيادة والتعاون، لا الهيمنة.
إن الاتحاد الحضاري الفجرستاني الذي نقترحه ليس استعادة لإمبراطورية، ولا وحدة قسرية، بل إطار شامل يكرم تراثنا المشترك ويصون كرامة الجميع — العرب والفرس والترك والأكراد والبشتون والبلوش، وسنة وشيعة على السواء. إنه يضمن حدودًا مفتوحة، وحركة حرة للأفراد ورؤوس الأموال، وهوية إقليمية قائمة على التعايش لا الإقصاء.
ويهدف هذا النظام الإقليمي الجديد إلى ضمان السلام والازدهار للمنطقة، داخليًا عبر الشمولية، وخارجيًا عبر التوازن وبناء علاقات سلمية مع القوى العالمية مع الحفاظ على حق تقرير المصير الإقليمي.

يقدّم الباحث الأفغاني في الدراسات الأمنية، بسم الله تابان، قراءة تحليلية لعلاقة باكستان بحركة طالبان، من مفهوم "العمق الاستراتيجي" إلى "المأزق الاستراتيجي"، متتبعاً خلفيات الغارات الجوية الأخيرة، وجذور الأزمة المتصاعدة بين الجانبين.
شنّت القوات المسلحة الباكستانية غارات جوية (رغم أن الجيش الباكستاني لم يعترف بذلك بشكل قاطع حتى الآن) في مساء العاشر من أكتوبر 2025 على عدة نقاط لا تقل عن ثلاث ولايات بينها العاصمة الأفغانية كابل، ما أثار ردود فعل متباينة. وأكّد المتحدث باسم طالبان بعد نحو ساعتين من سماع دوي الانفجارات في مدينة كابل في تغريدة مختصرة وقوع الانفجارات، واصفاً الموضوع بأنه ليس ذا أهمية تستدعي القلق. كما أصدرت وزارة الدفاع لدى الحركة، بعد تأخير يقارب 15 ساعة، بياناً موجزاً اعتبرت فيه الهجوم عملاً للقوات الجوية الباكستانية وحذّرت من تبعاته.
أبدى سياسيون أفغان سابقون أيضاً ردود فعل مختلفة؛ إذ أدان الرئيس السابق حامد كرزي الحادث، واعتبر مستشار الأمن الوطني السابق، رنغين دادفر سبنتا، أن ذلك يعدّ اعتداءً على أفغانستان، مشدداً على أن الموقف المناوئ لطالبان وحب الوطن قضيتان منفصلتان، وأن ما قامت به القوات الجوية الباكستانية هو اعتداء واضح على أفغانستان. ومنذ الدقائق الأولى، وبالرغم من أجواء الخوف والترقّب السائدين في ظل حكم طالبان، كتب سكان كابل عن سماعهم عدة انفجارات تحوّلت ومرور طائرات حربية في أجواء المدينة. وقد وجّه كثيرون، من دون انتظار موقف رسمي من طالبان أو اعتراف ضمني من الجيش الباكستاني، أصابع الاتهام نحو باكستان. في هذه الإحاطة المختصرة سأحاول تناول خلفية هذا الهجوم واستعراض السيناريوهات المحتملة من منظور أمني.
عزّزت طالبان وجودها سريعاً أمام القوى الجهادية الأخرى بدخولها من الأراضي الباكستانية إلى ولاية قندهار عام 1994. ولقيت الحركة في حكومتها الأولى دعماً ملحوظاً من عناصر ودوائر في باكستان، وهو ما أقرّ به وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف ووصفه بأنه «عمل قذر لأميركا»، وكانت باكستان واحدة من ثلاث دول اعترفت بطالبان خلال فترتها الأولى.
فرّ عناصر الحركة بعد هزيمتهم أمام قوات تحالف الشمال وحلف الناتو عام 2001 إلى مناطق القبائل في باكستان. ورغم اعتقال عدد من قادة طالبان، منهم ملا برادر في باكستان، فقد استخدمت الحركة خلال عقدين من فترة الحكومة الأفغانية السابقة أرض باكستان، ولا سيما مناطق إقليم خيبر بختونخوا وبلوشستان، ملاذاً آمناً، فتلقّت منها دعماً مالياً وبشرياً وتدريبياً وانطلقت منها لتقاتل ضد الشعب والحكومة الشرعية في أفغانستان.
استناداً إلى أدلة ووقائع جمةّ، كان الاعتقاد السائد أن طالبان هي حركة بالوكالة وعميلة لباكستان ضد الشعب الأفغاني، في وقت كانت باكستان نفسها داعماً رسمياً للحملة العالمية ضد الإرهاب، وتلعب دوراً مزدوجاً عبر إتاحة قواعد عسكرية ومسارات عبور لوجستية لقوات الناتو من خلال موانئها تجاه أفغانستان. وطالما أثارت هذه السياسة الملتبسة قلق الحكومات الأفغانية مطالبة باكستان بوقف إيواء عناصر طالبان، لكن الأمر استمر حتى استعادة طالبان للسلطة.
أثار صعود طالبان في أفغانستان فرحة لدى بعض السياسيين، لا سيما حزب تحريك إنصاف بزعامة رئيس الوزراء السابق عمران خان، ودوائر في المؤسسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية الباكستانية. زار الجنرال فيض حميد، رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية، كابل ولعب دور "المدرّب" في تشكيل ما وصفته الدوائر بتوزيع المناصب في ما يسمى حكومة طالبان، وكانت تغريدة عن احتساء قهوته في فندق "سيرينا كابل" قد أثارت ضجة. لكن تلك الفرحة لم تطل أمدها في أوساط السياسة والأمن في باكستان، على نحو لم يكن كما وصفه السيد حميد "ممتعاً".
في الأيام التي كان فيها فيض حميد منشغلاً بالاحتفال الظاهري بانتصار طالبان في كابل، نُقلت آلاف قطع السلاح وملايين الطلقات المتبقية من القوات الحكومية والأجنبية، في الغالب من ولايات الجنوب والشرق الأفغاني، إلى داخل باكستان عبر طالبان وشريكهم البارز، حركة طالبان باكستان (TTP). وصلت هذه الأسلحة والذخيرة في الأسابيع الأولى لصعود طالبان إلى يد عناصر الحركة الباكستانية وجيش تحرير بلوشستان، مما ضاعف قدرات تلك الجماعات بأبعاد مختلفة.
تشير إحصاءات مراكز الأبحاث الإقليمية، لا سيما في باكستان، إلى أن صعود طالبان تزامن مع ارتفاع غير مسبوق في هجمات الجماعات الإرهابية داخل باكستان. ومع مرور كل يوم من حكم طالبان في أفغانستان كانت الحقائق الميدانية المؤكدة لخطر تهديدات أمنية داخل باكستان تتزايد، حتى أن أصوات أسلحة M4 وM16 الأميركية وعمليات السيارات المفخخة لحركة طالبان باكستان جعلت الأجهزة الأمنية الباكستانية تدرك أن ثمار البذرة المرة التي زرعتها قد أتت آكلها، لكن هذه الإدراك جاء متأخراً جداً.
كرر قادة باكستان مراراً قلقهم من التهديدات الإرهابية القادمة من أفغانستان متوقعين أن تتعامل طالبان الأفغانية بجدية مع هذه المخاوف وتتخذ إجراءات عملية، لكنّ ذلك لم يحدث؛ بل إن طالبان فرشّت السجّاد الأحمر لقيادات حركة طالبان باكستان وجيش تحرير بلوشستان، وأعدّت لهم ضيافات فاخرة في كابل وولايات أخرى. وبجانب تنظيمات إرهابية أخرى مثل القاعدة وجيش العدل وأنصار الله وحركة تركستان الشرقية والتحرير الإسلامي الأوزبكي، حازوا على وصول غير مقيد إلى مرافق النظام وحتى شُيّدت لهم مجمعات سكنية عصرية في نقاط متفرقة من أفغانستان.
تكرّرت مطالبات باكستان بلا جدوى، وردّت طالبان بإنكار وجود هذه الجماعات واعتبرته مسألة داخلية باكستانية، وكما يقال في المثل الدارج بين الأفغان: "أمسك مالك ولا تتهم جارَك بالسرقة". ومع وجود تقارير موثوقة عن وجود فصائل إقليمية ودولية، بما فيها حركة طالبان باكستان، في أفغانستان، استمرت طالبان الأفغانية في النفي، ولم تعترف حتى بوجود أو مقتل أيمن الظواهري. لكن الحقيقة أن هذه الجماعات متواجدة على نحو واسع في أفغانستان وتزداد قوتها يومياً لتشكّل تهديداً إقليمياً ودولياً.
أدّت تكرار مطالب باكستان وردود طالبان السلبية إلى قيام باكستان مرات عدة باستهداف عناصر حركة طالبان باكستان داخل أراضي أفغانستان بقصف جوي، وكان رد طالبان الأفغانية سابقاً مقتصراً على الإدانة والادعاء بوقوع ضحايا مدنيين. وآخر هذه الحوادث كان في ليلة العاشر من أكتوبر الجاري حين سمع سكان كابل دويّ انفجارات عنيفة.
نشر أهل كابل في تلك الليلة مئات الرسائل على الشبكات الاجتماعية تتحدث عن أصوات الانفجارات في أنحاء المدينة، لكن طالبان ظلت صامتة حتى بعد ساعتين حين أكّد ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم الحركة، في منشور على منصة "إكس" وقوع انفجارات وادّعى أن "كل شيء على ما يرام وبخير، ولم تحدث أي مشكلة". حاولت طالبان كعادتها طمس الموضوع بالكتمان والكذب، لكن شدة الانفجارات حالت دون ذلك.
أصدرت وزارة دفاع طالبان بيانها بعد نحو 15 ساعة لتقول إن القوات الجوية الباكستانية اخترقت الأجواء فوق كابل وأنها تندد بذلك. ومع ذلك، وبحسب معلومات متضاربة، فقد استُهدفت مواقع في كابل وكنر وبكتيا، وانفجرت في سماء كابل قنابل صوتية كبيرة. وربما كانت وظيفة تلك القنابل الصوتية التغطية على قنابل أكثر حساسية أُطلقت على أهداف مهمة أخرى.
بعد ليلتين، في 12 أكتوبر 2025، نشرت قوات طالبان عبر فيديوهات وصور ادّعت فيها أنها شنت هجمات على نقاط على امتداد خط ديورند/الحدود بين البلدين، واستولت على عدد من نقاط حراسة باكستانية وألحقت بها خسائر. وفي المقابل أكدّت باكستان وقوع اشتباكات وأنها استولت على عدة نقاط تابعة لطالبان وأسفرت عن قتلى كثيرين بينهم. وعلى الرغم من أن الأدلة المنشورة من كل طرف تشير إلى معارك مسلحة، فإن غياب وصول وسائل إعلام مستقلة حال حتى الآن دون تأكيد مزاعم أي من الطرفين من جهة محايدة.
وفي منتصف تلك الليلة نفسها، زعمت وزارة دفاع طالبان أن عملية الانتقام ضد القوات الباكستانية انتهت بنجاح. ووصف بعض الأفغان، خصوصاً داعمو طالبان، هذه الخطوة بنوع من الوطنية وحاولوا توظيفها لإكساب الحركة قبولاً شعبياً وشرعية داخلية، وهو ما سعت طالبان لتحقيقه طيلة الأربع سنوات الماضية. أما آخرون فاعتبروها عرضاً مضحكاً لتوجيه الرأي العام وزعموا أن قيادات طالبان على علاقة وثيقة بباكستان ولا تجرؤ على مواجهتها.
من جهة أخرى، لطالما اعتبرت طالبان أعمالها المسلحة خلال العقدين الماضيين "جهاداً" وادّعت أن لها التزاماً شرعياً للرد على "الاعتداء" على أراضي أفغانستان. لكن رداً على هذه الهجمات ظل زعيم طالبان صامتاً واكتفت التصريحات الرسمية بكلمات مثل "الانتقام" أو بالقول إن هناك "دوائر داخل باكستان تريد تشويه العلاقات"، دون إجراءات أكبر. وهنا يطرح السؤال: هل كان تدخل القوات الباكستانية داخل الأراضي الأفغانية اعتداءً؟ وإذا كان الجواب نعم، فلماذا ظل زعيم طالبان صامتاً؟ وإذا لم يكن اعتداءً بل عملية منسقة، فلماذا أطلقت طالبان تلك العروض الهزلية تحت اسم "الانتقام" لاحقاً؟
فما السيناريو التالي؟
يتزايد تعقيد اللعبة السياسية والعسكرية بين باكستان وطالبان يوماً بعد يوم. أقامت طالبان، خصوصاً جناح قندهار، علاقات مقربة مع الهند، وهو ما تُعدّه باكستان تهديداً خطيراً لأمنها القومي. وفي حرب قصيرة بين الهند وباكستان، وعلى نحو مخالف للتوقّعات، أعلنت طالبان حيادها (والحقيقة دعمت الهند). وفي تلك الفترة قام نائب وزير الداخلية للشؤون الأمنية في طالبان، مولوي إبراهيم صدر، برحلة سرية إلى الهند، كما عبَر عدد من عناصر حركة طالبان باكستان وبعض من طالبان الأفغان الحدود إلى باكستان لفتح جبهة جديدة في مناطق خيبر بختونخوا لإشغال القوات الباكستانية. وفي رد سريع جوي، أطلقت القوات الباكستانية النيران على نحو سبعين من هؤلاء أثناء دخولهم باكستان على الخطوط الحدودية بحسب ادعائها، ما أدى إلى القضاء على هذه الجبهة بحسب بيانها.
تزامنت الغارات الجوية الباكستانية أيضاً مع زيارة وزير خارجية طالبان أمیر خان متقي إلى الهند، الزيارة التي رحّبت بها الدوائر الهندية ومهّدت لعقد لقاءات متعددة مع مسؤولين ومؤسسات دينية، منها مدرسة دار العلوم ديوبند المعروفة بترويجها للتشدد الديني.
في مؤتمر صحفي بمقر السفارة الأفغانية في نيودلهي، وبين لوحة كبيرة لصورة بوذا باميان المدمّر خلفه، هدد متقي باكستان قائلاً: "لا تختبروا صبرنا". تلك العبارة، المتكررة مرات عدة، حسّاسة من حيث الزمان والمكان وأظهرت أن الهند استغلت وجود متقي لإعلان موقف سياسي ضد باكستان.
وفي مساء اليوم التالي للقصف على كابل نشر خواجة آصف، وزير الدفاع الباكستاني، عبر منصة إكس منشوراً تصعيدياً اعتبر فيه دخول قوات بلاده إلى أراضي أفغانستان حقاً لها؛ وهو موقف أثار ردة فعل لدى كثير من الأفغان حتى من معارضي طالبان. وفي مؤتمر صحفي في بيشاور بتاريخ 10 أكتوبر، أجاب المتحدث باسم الجيش الباكستاني عن سؤال ما إذا كانت باكستان نفّذت الضربة من عدمها قائلاً من دون اعتراف مباشر: "نحن مستعدون لاتخاذ أي إجراء لحماية شعبنا".
بدت لهجة تصريحات المسؤولين الباكستانيين متشددة ولا توحي بتسوية. وفي الوقت ذاته تحاول طالبان توظيف هذا الوضع لإشعال الحساسيات الوطنية لدى الأفغان وتغطية جرائمها الداخلية.
إلى أين يمكن أن يفضي هذا الصراع؟ هل ما ادّعاه خواجة آصف -أي احتمال دخول القوات الباكستانية إلى أفغانستان- قابل للتنفيذ؟ يبدو أن باكستان لن تقدم على مغامرة لا رجعة فيها إلا في حال أخطأت حساباتها وتجاهلت دروس التاريخ. ومن ناحية أخرى، طالما طالبان في السلطة فالأمل في تقليص التهديدات ومكافحة الإرهاب يُعد أمراً بعيد المنال ووهمياً.
وأعتقد أيضاً أنه بالنظر إلى علاقات باكستان الوثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية، فإن شن غارة جوية على كابل من غير "ضوء أخضر" من البنتاغون والبيت الأبيض يبدو غير مرجّح. ويطرح هذا تساؤلاً مهماً: هل تمهّد هذه الأفعال لخطط دونالد ترامب الرامية إلى "استعادة" مطار باغرام؟ أياً يكن الأمر، لا يمكن للاحتلال الخارجي وحده أن يحلّ قضية أفغانستان وينهي ظلم طالبان؛ ويمكن أن يكون حلاً مؤقتاً على غرار ما حدث عام 2001، لكنه ليس بحلٍّ دائم.
وأرجح أن أنجع الطرق وأدومها لتفكيك سلطة طالبان تبدأ أولاً بتقوية خطاب وطني جاد وصادق يضم طالبان أيضاً؛ وإذا أخفقت هذه المقاربة أو رفضت طالبان المشاركة، فحينها يبرز خيار دعم سياسي وعسكري واستخباراتي للقوى المناوئة لطالبان. ويجب ألا ننسى أن وجود قوات أجنبية -حتى جندي واحد- قد يشرعن سرديات الجماعات المتطرفة مثل طالبان استناداً إلى تفسيرات دينية مغلوطة.
بناءً على ذلك، يمكن قراءة علاقات طالبان وباكستان ضمن ثلاثة سيناريوهات محتملة:
أولاً: قد تُستخدم الضربات الجوية الباكستانية كأداة ضغط تدفع طالبان إلى التفاوض مع إسلام آباد، والمطالبة بتسليم عناصر " حركة طالبان باكستان" وإخراجهم من أفغانستان. لكن تنفيذ هذا المطلب سيكون باهظ الثمن سياسياً وعلى صعيد المصداقية داخل صفوف طالبان.
ثانياً: انطلاق حوار لا نهاية له يستمر معه انعدام الأمن داخل باكستان، وإنْ ربما شهد تراجعاً إحصائياً بسيطاً؛ كما قد تُستخدم سياسة الضغط على اللاجئين الأفغان المقيمين في باكستان وسيلة للضغط على طالبان، في حين أن طالبان لا تعتبر نزوح اللاجئين قضية بل أداة تُفاقم معاناة الشعب الأفغاني داخلياً وتعتبر المطرودين مصدر تمويل عبر وجوب جمع العُشر والزكاة دون تقديم أي مساعدة لهم.
ثالثاً: تمهيد لحشد دعم دولي -وبرعاية تشمل باكستان وبدفع أميركي- للقوى المعارضة لطالبان بهدف إسقاط حكم الحركة مقابل وعدٍ بالقضاء على حركة طالبان باكستان، وهذا السيناريو يبدو أكثر احتمالاً واستدامة من سابقيه.

في هذا المقال، يستعرض الصحفي الأفغاني وحيد بيمان، خلفيات الغارة الجوية على كابل، مسلطاً الضوء على هوية المستهدفين نور ولي محسود وغل بهادر، ودلالات وجود قادة حركة طالبان باكستان داخل العاصمة الأفغانية.
في أعقاب الغارات الجوية التي شنّها الجيش الباكستاني على كابل، أفادت مصادر بأنّ المركبة التي كانت تقلّ زعيم حركة طالبان باكستان، نور ولي محسود، تعرّضت للاستهداف، غير أنّه نجا من الهجوم، كما تشير تقارير إلى أنّ حافظ غل بهادر، أحد القادة العسكريين في الحركة، يتردد أحياناً على العاصمة كابل، وبات يسبّب حرجاً لحركة طالبان الأفغانية.
يُعدّ كل من نور ولي محسود وحافظ غل بهادر من أبرز القادة النافذين في حركة طالبان باكستان، وينحدران من قبائل وزيرستان. وقد لعبا دوراً محورياً في تأسيس الحركة واستمرارها، إضافة إلى جماعات متفرعة عنها. خاض الاثنان معارك طويلة في أفغانستان، وأقاما علاقات وثيقة مع شبكة حقاني وطالبان الأفغانية، كما شاركا في مراحل مختلفة في القتال ضد الجيش الباكستاني.
نور ولي محسود
يُعرف بين مقاتليه بلقب "أبو منصور عاصم"، وكان في السابق قاضياً شرعياً، ثم تولّى قيادة فرع الحركة في كراتشي. وبعد مقتل مولوي فضل الله في غارة أميركية عام 2018، اختاره مجلس شورى الحركة زعيماً جديداً لها.
دوره ومكانته داخل الحركة
عمل محسود بعد توليه القيادة على إعادة بناء الهيكل المتصدّع للحركة، فوحد الفصائل المنشقة مثل "جماعة الأحرار" و"حزب الأحرار"، ووجّه العمليات ضد قوات الأمن الباكستانية. وفي عام 2019 أدرجت الولايات المتحدة اسمه على قائمة "الإرهابيين الدوليين"، كما فرض مجلس الأمن عقوبات عليه. وبحسب مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في تقرير عام 2023، فقد سعى محسود إلى تحويل الحركة من تنظيم متشرذم إلى كيان منسّق وذي أهداف محددة، مع تقليص استهداف المدنيين.
علاقته بطالبان الأفغان
شارك نور ولي محسود في القتال داخل أفغانستان خلال تسعينيات القرن الماضي وما بعد عام 2001، ومنذ ذلك الوقت أقام علاقات شخصية وتنظيمية مع طالبان الأفغان. وبعد عودتهم إلى السلطة في كابل عام 2021، عادت تلك الروابط إلى النشاط مجدداً.
ويصف تقرير فريق العقوبات في الأمم المتحدة لعام 2023 العلاقة بين طالبان الأفغان وحركة طالبان باكستان بأنها "وثيقة وتكافلية"، مؤكداً أنّ الأخيرة تستخدم الأراضي الأفغانية لتنظيم هجماتها ضد أهداف داخل باكستان.
كما أظهرت دراسة أعدّها الباحثان "عبد السيد" و"توره هامينغ" لصالح مركز "سي تي سي سنتينيل" التابع للأكاديمية العسكرية في "ويست بوينت" أنّ الحركة بعد 2021 حصلت على أسلحة أكثر تطوراً، وأعادت بناء قيادتها، وركّزت عملياتها على قوات الأمن الباكستانية.
وبحسب معهد دراسات السلام في باكستان (PIPS)، شهد العام 2024 أكثر من 500 هجوم داخل البلاد أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 850 شخصاً. أما في الربع الأول من عام 2025، فأعلن مركز الأبحاث والدراسات الأمنية في باكستان (CRSS)، أنّ البلاد شهدت ارتفاعاً غير مسبوق في مستوى العنف، إذ قُتل نحو 900 شخص في ثلاثة أشهر، معظمهم في ولايتي خيبر بختونخوا وبلوشستان، حيث تُحمّل إسلام آباد حركة طالبان باكستان المسؤولية المباشرة.
وكانت حركة طالبان الأفغانية توسطت عام 2022 في مفاوضات بين الحركة والحكومة الباكستانية انتهت بوقفٍ مؤقت لإطلاق النار، لكنّ طالبان باكستان أعلنت لاحقاً إنهاء الهدنة واستأنفت هجماتها.
ومع ذلك، ظلت الروابط الفكرية والأيديولوجية قائمة، إذ وصفت الحركة الباكستانية "انتصار طالبان في كابل" بأنه "إلهام للجهاد في المنطقة".
ورغم نفي كابل المتكرر، تؤكد السلطات الباكستانية أن قادة طالبان باكستان يقيمون داخل أفغانستان. وقد قال وزير الدفاع الباكستاني قبل ساعات من الغارات الأخيرة في كابل إنّ "صبرنا قد نفد".
الفكر الأيديولوجي
يستند فكر نور ولي محسود إلى المدرسة الديوبندية وإلى فكرة "الجهاد الشرعي ضد الدولة الباكستانية". وفي كتابه "ثورة محسود"، وصف القوانين الوضعية في باكستان بأنها "غير إسلامية"، واعتبر القتال ضدها "واجباً دينياً".
وفي السنوات الأخيرة، حاول تمييز حركته عن تنظيم "داعش خراسان" عبر تقديمها كنسخة أكثر "انضباطاً" من الجهاد المحلي، رغم أن عملياته ما زالت تحصد أرواح مدنيين.
وتُعدّ الغارة التي استهدفته في كابل ثاني هجوم أجنبي داخل العاصمة الأفغانية منذ عودة طالبان إلى الحكم، بعد مقتل أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، في غارة أميركية عام 2022، وهو ما أثار مجدداً تساؤلات حول وجود الجماعات المتطرفة في البلاد.
حافظ غل بهادر
ينتمي غل بهادر إلى عشيرة "مده خيل" من قبيلة عثمانزي في وزيرستان. وتشير تقارير إلى أنه نشأ في بيئة دينية قبلية تداخلت فيها منذ ثمانينيات القرن الماضي شبكات الجهاد الأفغاني والمقاتلون الأجانب.
وبحسب "مؤسسة جيمزتاون" البحثية، درس العلوم الدينية في إحدى المدارس الديوبندية بمدينة ملتان، وشارك لاحقاً في الحرب الأفغانية، حيث ارتبط تدريجياً بشبكة حقاني. وتذكر بعض المصادر أنه من نسل "ميرزا علي خان المعروف بالفقير إيبي"، أحد رموز المقاومة في وزيرستان ضد البريطانيين ثم ضد الدولة الباكستانية.
من الظهور إلى اتفاقات السلام
برز اسم حافظ غل بهادر عام 2005 مع إطلاق الجيش الباكستاني حملة واسعة لطرد المقاتلين الأجانب من شمال وزيرستان، وكان وقتها أحد القادة المحليين الذين جمعوا بين القتال والتفاوض.
وبعد أشهر من الوساطات القبلية والدينية، وُقّع "اتفاق سلام شمال وزيرستان" في سبتمبر 2006 بمشاركة شخصيات مثل جلال الدين حقاني وملا داد الله، وبحسب تقارير نُسبت حينها رسالة من الملا عمر دعا فيها قادة طالبان المحليين إلى تجنّب الحرب مع الجيش الباكستاني.
بعد الاتفاق، عزّز غل بهادر موقعه كـ"القائد العام لطالبان في شمال وزيرستان"، وفرض نظاماً إدارياً ومالياً في المنطقة يشمل فرض الضرائب وتنفيذ الأحكام الشرعية.
علاقته بحركة طالبان باكستان: قرب وابتعاد
عقب تأسيس حركة طالبان باكستان في ديسمبر 2007، عُيّن نائباً لزعيمها بيت الله محسود، لكنه سرعان ما ابتعد عنها بسبب رفض الملا عمر لتوسيع القتال ضد الدولة الباكستانية، مفضلاً التركيز على الجبهة الأفغانية.
وفي فبراير 2008 توصّل مجدداً إلى تفاهم مع إسلام آباد، وانتقد استخدام بيت الله محسود أراضي شمال وزيرستان للهجوم على الجيش. ثم أسّس في فبراير 2009 مع بيت الله محسود وملا نذير تحالفاً باسم "مجلس اتحاد المجاهدين" لتنسيق القتال في أفغانستان.
وفي نهاية عام 2011، أورد "المعهد الدنماركي للدراسات الدولية (DIIS)، أنه أسّس "مجلس المراقبة" إلى جانب شبكة حقاني وملا نذير، بهدف تجنّب الصدام مع الجيش الباكستاني والتركيز على الحرب في أفغانستان. وقد ظل هذا النهج سائداً بين قادة وزيرستان لسنوات لاحقة.
فصائل فرعية جديدة
منذ عام 2023 برزت تسميات جديدة مثل "تحريك جهاد باكستان" و"جبهة أنصار المهدي - خراسان"، وهي مجموعات يُعتقد أنها تابعة لطالبان باكستان ومرتبطة بفصيل غل بهادر. ولا تختلف هذه الفصائل كثيراً من حيث الأهداف أو أساليب العمل، وتُستخدم غالباً كواجهات إعلامية أو عملياتية في مناطق محددة.
وتُظهر مسيرة غل بهادر صورة "القائد الوسيط" الذي شارك في اتفاقات سلام متعددة كما خاض معارك حدودية دموية. بين عامي 2006 و2014، اختبر جولات متكررة من الصلح والقتال، قبل أن تضعف شبكته بشدة خلال عملية "ضرب عضب" التي شنها الجيش الباكستاني.
الرسالة الباكستانية
خلال الأشهر الماضية، طالبت باكستان مراراً حركة طالبان أفغانستان بكبح نشاط حركة طالبان باكستان داخل أراضيها، لكنّ كابل نفت باستمرار وجود عناصر الحركة لديها. غير أن ظهور نور ولي محسود وغل بهادر في العاصمة الأفغانية كشف عكس ذلك، وأثبت، في نظر مراقبين، أن طالبان لم تكن صادقة لا مع واشنطن ولا مع إسلام آباد.
وباستهداف زعيم طالبان باكستان داخل كابل، وجّهت إسلام آباد رسالة واضحة للعالم بأن العلاقة الأيديولوجية بين طالبان الأفغان وحركة طالبان باكستان أعمق بكثير مما يُعلن، وأنها تمتد من الميدان إلى بنية التنظيم والفكر.

يسافر وزير خارجية طالبان، أمير خان متقي، إلى الهند الأسبوع المقبل بعد مشاركته في اجتماع "صيغة موسكو" في روسيا، مستفيداً من إعفاء سفر مؤقت لمدة أسبوع منحته له لجنة العقوبات في مجلس الأمن الدولي.
يستعرض الصحفي وحيد بيمان في هذا المقال الأهداف المحتملة لهذه الزيارة، التي تحمل طابعاً سياسياً واقتصادياً وجودياً لطالبان على المستوى الإقليمي.
1. تثبيت التمثيل الدبلوماسي لطالبان
بالنسبة لوزارة الخارجية التابعة لطالبان، لا تكاد توجد أولوية تفوق السعي إلى تفعيل البعثات الدبلوماسية الأفغانية في الخارج أو تعيين دبلوماسيين فيها. فسفارة أفغانستان في نيودلهي أغلِقت عام 2023 بسبب أزمات مالية وسياسية، ومنذ ذلك الحين تقتصر خدماتها على بعض المعاملات القنصلية. وتضغط طالبان منذ أشهر لتعيين ممثلين عنها في السفارة، بالإضافة إلى قنصليات مومباي وحيدر أباد، رغم أن الحكومة الهندية تتعامل حتى الآن مع هذه المساعي بحذر.
ومن المتوقع أن يدفع متقي بقوة خلال زيارته لتثبيت هؤلاء الدبلوماسيين، إذ تعتبر طالبان السيطرة على البعثات الدبلوماسية إنجازاً سياسياً كبيراً، تسارع إلى الترويج له إعلامياً عند حدوث أي اتفاق مع الدول المستضيفة.
ويطمح متقي إلى إضافة الهند إلى قائمة الدول التي نجحت طالبان في تحقيق اختراق دبلوماسي معها.
2. تعزيز العلاقة مع الهند في ظل تدهور العلاقات مع باكستان
تشهد العلاقة بين طالبان وإسلام آباد توتراً متصاعداً منذ عام، بلغ ذروته في الشهور الأخيرة. فقد صرّح رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف مؤخراً بأن على طالبان أن تختار بين التعاون مع الدولة الباكستانية أو دعم "حركة طالبان باكستان" التي تُتهم كابل بدعمها.
ونفذت حركة طالبان باكستان، المدعومة وفق اتهامات إسلام آباد من نظيرتها الأفغانية، عدة هجمات دامية داخل الأراضي الباكستانية مؤخراً، ما دفع بالأزمة إلى حد الاشتباكات الحدودية.
في هذا السياق، يسعى متقي لاستثمار التنافس التاريخي بين الهند وباكستان لتعزيز موقف طالبان إقليمياً، عبر فتح قنوات تعاون مع نيودلهي، وإرسال رسالة سياسية إلى إسلام أباد مفادها أن طالبان تملك بدائل وشراكات أخرى.
وقد ظهرت مؤشرات على تقارب أمني بين نيودلهي وطالبان، من بينها لقاء وكيل وزارة الخارجية الهندية فيكرام ميسري بأمير خان متقي في دبي، يناير 2025، واتصالات هاتفية مباشرة بين وزير الخارجية الهندي سوبراهمنيام جايشانكار ومتقي في مايو الماضي.
وتشير التوقعات إلى أن الهند ستطرح خلال الزيارة موضوع "عدم استخدام الأراضي الأفغانية ضد الهند" بشكل أكثر تفصيلًا.
وترى طالبان في هذا المسار فرصة لإبراز استقلالها عن باكستان واستخدامه كورقة ضغط جيوسياسية أمام نيودلهي.
3. تقليص النفوذ الصيني في أفغانستان
تُعد الصين أول دولة أرسلت سفيراً جديداً إلى كابل بعد استيلاء طالبان على السلطة، وتبادلت معها الاعتراف الرسمي على مستوى السفراء.
وتُظهر الوقائع أن بكين تسعى لتعزيز حضورها الاقتصادي عبر مشاريع التعدين والبنية التحتية، ومنها مشروع "الحزام والطريق".
وقد عبّرت الهند عن قلقها من الانفراد الصيني بالساحة الأفغانية، لا سيما بعد زيارة وزير الخارجية الصيني إلى كابل في أغسطس 2025، حيث ناقش مشاريع استراتيجية تتعلق بالمعادن والطاقة.
وتشير التقارير إلى أن نيودلهي رفعت مستوى اتصالاتها مع طالبان عقب اللقاء في دبي، في محاولة لتأمين موقع لها ضمن التنافس الجيو-اقتصادي، ومنع احتكار الصين للفرص المتاحة في أفغانستان.
وترى طالبان من جهتها أن الهند قد تكون شريكاً اقتصادياً مهماً، وسوقاً واعدة، وطريقاً بديلاً عن الارتهان الكامل لبكين وإسلام آباد.
4. نقاش حول ميناء تشابهار وطرق العبور
يُعد ميناء تشابهار الإيراني شرياناً حيوياً للهند في ربطها بأفغانستان وآسيا الوسطى دون المرور عبر باكستان. إلا أن قرار الولايات المتحدة في سبتمبر 2025 بإلغاء الإعفاءات المتعلقة بميناء تشابهار، وضع هذا الممر في دائرة الخطر، وسط تشديد العقوبات على الشركات والبنوك العاملة فيه.
وتسعى طالبان في هذه الزيارة لفهم الطريقة التي تنوي بها الهند إبقاء هذا المسار نشطاً رغم الضغوط الأميركية، لا سيما أن نيودلهي أرسلت ثلاث حاويات مساعدات إلى كابل عبر تشابهار قبل سريان العقوبات بأيام، في خطوة فسرتها الصحافة الاقتصادية الهندية على أنها "رمزية" ومقصودة.
ومن منظور الهند، فإن تعطيل هذا المسار يترك المجال واسعاً أمام الصين لتعزيز نفوذها التجاري واللوجستي في المنطقة. لذا، فإن المحادثات حول قضايا فنية مثل التأمين، والنقل البحري، وآليات الدفع ستكون على قدر أهمية البيانات السياسية.
والنتيجة المرجوة للطرفين هي الإبقاء على حد أدنى من نشاط هذا الممر، لتسهيل إيصال المساعدات وتبادل السلع غير الحساسة.
أما إذا فشل ذلك، فستضطر طالبان إلى الاعتماد على طرق برية أكثر تكلفة، ما يرهق ميزانية كابل ويقلل من نفوذ الهند.
5. الحصول على مساعدات إنسانية
تعتمد طالبان بشكل كبير على المساعدات الخارجية لتلبية احتياجات الداخل، ومنذ أغسطس 2021، حافظت الهند على قناة محدودة من الدعم الإنساني إلى أفغانستان رغم عدم اعترافها الرسمي بحكم طالبان.
وتنتهج الهند سياسة "المساعدة دون الاعتراف" بهدف الحفاظ على حضورها الاجتماعي والسياسي في البلاد.
وسيحاول متقي في زيارته إقناع نيودلهي بأن مساعداتها تصل مباشرة إلى المواطنين وتُحدث تأثيراً ملموساً.
ومن المتوقع أن يسعى وزير خارجية طالبان إلى إقناع الهند بلعب دور أكبر كممول إقليمي رئيسي، في ظل تراجع دعم العديد من الدول والمنظمات الدولية.

قال كبير الباحثين الأميركيين، مايكل كوغلمان، إن الإصرار المتكرر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب على استعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجوية يُظهر نيته الحقيقية في استرجاع القاعدة.
وكتب مايكل كوغلمان في مقال نشره موقع "فورين بوليسي"، أن السيناريوهات المطروحة أمام الولايات المتحدة في أقصى حالاتها قد تشمل تنفيذ عملية عسكرية محفوفة بالمخاطر للسيطرة على باغرام، أو حتى تدميرها.
وتناول كوغلمان، المتخصص في شؤون جنوب آسيا بمركز "ويلسون" للأبحاث في واشنطن، في مقاله تصريحات ترامب الأخيرة بشأن قاعدة باغرام، قائلاً إن من غير الواضح ما إذا كان تهديده الأخير مجرّد مناورة، أم أنه يعكس نية جدية. لكن تكرار المطالبة بباغرام يعكس اهتماماً حقيقياً من ترامب بهذه القاعدة.
وبحسب المقال، فإن أسوأ السيناريوهات -من احتلال عسكري إلى تدمير القاعدة- قد يؤدي إلى خسائر بشرية بين الأميركيين والأفغان، وعرقلة مفاوضات تبادل الأسرى، فضلاً عن كلفة سياسية محتملة على ترامب نفسه.
وأشار كوغلمان إلى أن ترامب يطرح مطلباً لن تقبل به حركة طالبان مطلقاً، في وقت توجد فيه خيارات سياسية أكثر فاعلية لمعالجة القلق الأميركي الاستراتيجي والأمني في أفغانستان، إلا أنها تبدو مُهمَلة.
وكان ترامب حذر في منشور عبر "تروث سوشيال" نهاية الأسبوع الماضي، من "عواقب وخيمة" إذا لم تسلّم طالبان قاعدة باغرام للولايات المتحدة، وسبق أن تحدث عن هذا الموضوع في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني.
وأكد كوغلمان أن توقيت ترامب وتبريراته وتهديده، جميعها "غير منطقية"، لافتاً إلى أن "طالبان ترفض تماماً وجود أي قوات أجنبية على الأراضي الأفغانية".
ورغم أن الحركة قدّمت تنازلات للولايات المتحدة، مثل إطلاق سراح رهائن أميركيين، فإن ملف باغرام بالنسبة لها "خط أحمر". وكانت طالبان قد رفضت الطلب الأميركي بشكل قاطع يوم الأحد.
ورأى الكاتب أن تهديدات ترامب قد تُقوّض أولويات السياسة الأميركية في أفغانستان، خصوصاً مع الإشارة إلى زيارة آدم بولر، المبعوث الأميركي الخاص بشؤون الرهائن، إلى كابل، برفقة زلمي خليل زاد، المبعوث السابق إلى أفغانستان.
كما تناول كوغلمان تصريحات ترامب التي أشار فيها إلى قرب باغرام من الصين، معتبراً أن إعادة نشر القوات الأميركية هناك بعد أكثر من أربع سنوات قد تُفسَّر في بكين على أنها خطوة استفزازية، ما قد يدفعها للرد.
وأضاف أن الحضور الصيني في أفغانستان لا يزال محدوداً للغاية، بسبب مخاوفها الأمنية من الجماعات الإرهابية.
ويرى كوغلمان أن واشنطن ربما تنظر إلى باغرام كمنصة محتملة لمحاربة تنظيم داعش خراسان، لكن انتشار التنظيم خارج أفغانستان يجعل من التركيز الأميركي على مكافحة الإرهاب في مناطق أخرى خياراً أكثر فاعلية.
وقال إن طالبان قد تقترح على الولايات المتحدة إعادة فتح سفارتها في كابل كوسيلة للرقابة على التهديدات. ورغم أن هذا الاحتمال يبدو مستبعداً حالياً، فإن واشنطن لا تزال تحتفظ بقنوات اتصال مفتوحة مع طالبان، عبر لقاءات دورية في الدوحة وأحياناً في كابل، تتيح لها فرصاً مهمة، مثل مراقبة موارد أفغانستان المعدنية الحيوية، أو إجراء محادثات غير رسمية بين الاستخبارات الأميركية وطالبان حول التهديدات المشتركة لتنظيم داعش خراسان.